إنّ الاستبداد الذي مارسته الأنظمة العربيّة على شعوبها، وإن اختلفت درجته من دولة لأخرى، دفع بهذه الشعوب إلى التطوّر في اتجاهات متشعّبة غير سليمة ولم تكن منسجمة لا مع الماضي وتركته الحضارية والثقافية ولا مع الحاضر ونظرياته المعرفيّة والعلميّة ولا مع المستقبل وتطلعاته من أجل التقدّم فيه.
لم تكن هذه الأنظمة إسلامية بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الدين لم يسيطر فيها على الدولة كما تطالب به الأحزاب الإسلاميّة، ولكنها وفي الوقت نفسه لم تكن يوماً علمانيّة لأنها تستمد شرعيتها من الاستبداد الذي تمارسه على شعوبها وهذا ما يتناقض مع أهم مبادئ العلمانية.
في الحقيقة، إنها تطبق بطريقة متناقضة الجانب الأكثر سطحيّة من العلمانيّة والجانب الأكثر سطحيّة من الدين وهذا ما جعل منها خلطة عجيبة غريبة غير قابلة للتصنيف.
وبالرغم من محاربة الأنظمة العربية، بشكل عام، للإسلام السياسي والجماعات الإسلاميّة وملاحقتها للمتطرفين وعدم تهاونها معهم، يمكننا القول وبنظرة سريعة على سياساتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والتربويّة أنها، بشكل أو بآخر، شجّعت الدين وكرّست التطرف الديني بوعي وتخطيط مدروس.
فمثلاً على الصعيد الاقتصادي، عجزت السياسات العربية عن حماية الاقتصاد الوطني التقليدي، إن وجد طبعاً، كما فشلت في تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب وعمدت الطبقات الحاكمة إلى النهب الممنهج والإثراء غير المشروع مما أدى إلى سوء توزيع الدخل بين فئات المجتمع بشكل عام ،وغياب القوانين والتنظيم المؤسسي، وعدم وجود برامج اقتصاديّة واضحة، واستشراء الفساد الصغير والكبير في جميع مناحي الحياة، والأهم من كل ذلك هو التفاوت في نسبة النموّ بين منطقة وأخرى داخل كل بلد.
هذه السياسات الاقتصادية الفاشلة كانت ومازالت العامل الأساسي في تحطيم قطّاع الزراعة، مما أدى إلى هجرات متتابعة من الأرياف إلى المدن العربية على مدى نصف قرن تقريباً، وتكاثر جيوب الفقر والحاجة وانتشار الاستغلال والجهل فيها، وإلى تغيير طابعها المدني و”ترييفها” وتشويه وجهها الحضري إلى حدّ بعيد، كما حصل في دمشق والقاهرة وبيروت وبغداد والرباط والجزائر وتونس.
في ظل هذا الوضع الاقتصادي المتدهور، وغياب مشروعات التنمية الحقيقية، عانت الشعوب العربيّة الفقر والبطالة والتهميش والهدر لطاقاتها وكفاءاتها، ووقعت ضحية قلق وجودي واستلاب، وكان هاجسها اليومي هو إشباع حاجاتها الأولية كالحاجة إلى مأوىً وعملٍ ومكانةٍ اجتماعيةٍ وإحساسٍ بالطمأنينة.
لقد أصبح الحرمان واقعاً عربياً في ظل أنظمة استبدادية حاربت “ثقافة الانجاز” التي تقوم على معادلة الأداء والعمل والكفاءة والإنماء، وشجعت “ثقافة الولاء” التي تقوم على التبعية والتملق والتقرّب والحظوة والنصيب، وأدّى في أغلب الأحيان إلى نوع من “الخواء الوجودي” وحياة اللامعنى وخنق الهوية الوطنية، وهو ما دفع بالفئات الفقيرة والمُستضعفة إلى الوقوع في إغراء الحركات الأصولية لاسترداد الفردوس المفقود، حيث لعب الدين وظيفة إشباعيّةً وتعبويّة.
أما على الصعيد الاجتماعي والثقافي، فلقد شجّعت الأنظمة العربية في مجملها خطاب العودة للأصول، أي ثقافة ترسيخ العادات والتقاليد (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) وإشاعة المعرفة اليقينيّة التي تقوم على الجواب الواحد الصحيح والعلاقات الميكانيكية السببية والتفكير المانوي، أي اختصار الواقع في تبسيطات اختزالية مثنويّة (أسود/أبيض، خير/شر ، نور/ظلام، خائن/وطني، صح/خطأ، مؤمن/كافر…) والتي غالباً ما تستمد قوتها من إسباغ اليقين الديني والتمسّك بأصالتها الماضوية وبالثوابت، وبذلك تم سدّ السبل أمام الفكر الحر وإبداعه الذي يعتمد على النقض والنقد وقابلية التجاوز والشك والجدل والتعدديّة والاحتماليّة.
ويكفينا النظر إلى واقع الإعلام في الدول العربية، على سبيل المثال لا الحصر، لندرك كيف سيطرت الأنظمة العربية عليه ووجهته بما يعزّز النظرة الدينيّة التراثيّة، ويخدم مصالح النخب الحاكمة في آن معاً ومدى إحكام الرقابة على دور النشر والكتب المستوردة والصحافة، وإخضاع المؤسسات الثقافية لمؤسسات حكومية بيروقراطية لا تفهم معنى الثقافة ولا تدرك أهميتها المجتمعيّة.
فحين تعلم، مثلاً، أنّ مجموع الكتب الصادرة عن دور النشر العربية هو 25 ألف كتاب سنوياً (لحوالى 330 مليون عربي)، ربعها تقريبا هو كتب خرافيّة وقدريّة وتراثيّة يُعاد نشرها أكثر من مرة. بينما هولندا التي يبلغ عدد سكانها 14 مليون نسمة فقط، تنشر ما يزيد عن 12 ألف كتاب، وألمانيا التي يبلغ عدد سكانها حوالى ال78 مليون تنشر حوالى 70 ألف كتاب سنوياً، تَلمس حجم الكارثة الثقافية التي تعيشها الشعوب العربية.
وعلى الصعيد التربوي، لم يكن الوضع بأفضل مما هو عليه مما سبق، فلقد فشلت المدرسة في رسالتها المرجوّة وبدلاً من نشر الفكر النيّر والروح النقديّة ساعدت على نشر الفكر التعصّبي والقَدري وتحوّلت المدرسة، خاصةً في في الأنظمة الشمولية، إلى مؤسسة تدجين وتهجين وترويض.
وربما واقع الأميّة في الوطن العربي يشرح لنا جزءاً من هذه الفشل، فالاحصاءات تشير إلى أن عدد الأمييّن بين العرب الذين بلغوا سنّ الدراسة يتجاوز ال100 مليون شخص، أي ما يعادل 30 بالمائة من المجموع العام للسكان الذي يبلع حوالي 330 مليون نسمة. هذا بالنسبة “للأمية التقليدية” أي عدم القدرة على القراءة والكتابة، ولكن الخطورة تكمن في “الأميّة الثقافيّة” أي عدم الرغبة في القراءة والإطلاع وضعف المعرفة بالتطورات الثقافيّة والتكنولوجيّة وبالحقائق العلميّة والمواقف السليمة التي تسود هذا العصر.
إن تراجع نسبة الأميّة التقليدية في البلاد العربية باستمرار، يقابله تزايد متواصل في نسب الأميّة الثقافيّة. وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على فشل المدارس والجامعات في حثّ الشباب على القراءة والتفكير الواعي والحرّ وحب المعرفة مما يجعلهم فريسة سهلة للاستبداد بوجهيّه السياسي والديني وضحيّة للتديّن الطقسي والالتزام الحرفي في تناول النصوص الدينية.
وبنظرة تحليلية سريعة لسياسات الأنظمة العربية يمكننا القول أنّ خلافها مع الإسلام السياسي لم يكن في الجوهر، ولا في فهم الدين وتطبيقه، ولا في سياسات الدولة وطرق تطبيقها وإنما صراعاً على الدين والشرعيّة الدينيّة والسياسيّة.
فحتّى حين حاربت هذه الأنظمة الإسلام السياسي وانتصرت عليه، أبقت على البيئة الملائمة لنشوءه وازدهاره وعودة أفكاره مرّة أُخرى بأسماء وهيئات جديدة مختلفة، وأبقت الأرضيّة الخصبة لاستمرار التعصب الديني والكراهية الدينية.
حتى الأنظمة العربية التي ادعت الاشتراكية والعلمانية لم تحارب يوماً الدين ولا التديّن، بالعكس تماماً فلقد اعتمدت، ربما أكثر من غيرها، في استبدادها على الموروث الثقافي والسحب من الرصيد الديني والتسويغ لوجودها من خلال هذا الرصيد.
وهدف التسويغ هذا كان واضحاً في جميع الدول العربية حيث عمدت الأنظمة فيها إلى توظيف النصوص والمقولات الدينية لتأكيد شرعيتها وترسيخ سيطرتها، فمن مقولة “وأطيعوا أولي الأمر منكم” و “إمام غشوم خير من فتنة تدوم” و أن السلطان ظل الله في الأرض” إلى استخدام الشعارت التي ترسّخ أبويّة السلطة وضروة الولاء لها وذلك حفاظاً على الوحدة الوطنية وتجنباً للفتنة والفراغ السياسي”فستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان”.
الحقيقة التي لا يمكن أنّ تغيب عن ذهن أحد هي أن الأنظمة العربية لم تتعامل يوماً مع شعوبها كمواطنين وإنما كرعايا، وعمدت إلى توظيف النصوص والمقولات الدينية لتأكيد شرعيتها وترسيخ سيطرتها.
وبنظرة سريعة سنجد أنّها من أجل شرعنة وجودها، اعتمدت على الاستخدام النفعي للأديان بشكل عام وللدين الإسلامي بشكل خاص (مثلاً حافظ الأسد استخدم تعبير “تجديد البيعة” وهو تعبير إسلامي محض).
وسنلاحظ أنه، وفي حالات كثيرة، تمّ توظيف الدين في الدول العربية لتحقيق أغراض نفعيّة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية. وهكذا تحوّل الدين إلى مظاهر خارجية وأداة من أدوات الحكم والسلطة وتم اختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيويّة متدنيّة على حدّ تعبير نصر حامد أبو زيد في كتابه “التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التفكير” الصادر في عام 2010.
لقد كان ومازال تحالف السلطة السياسية والسلطة الدينية من أقوى آليات التحكّم والترويض للانسان العربيّ، ففي الوقت الذي كانت تقوم مؤسسات النظام الحاكم العربي بحرمان الناس من أبسط حقوقهم السياسيّة والاقتصاديّة وحق المشاركة في اتخاذ القرارات المصيريّة، كانت مؤسساته الدينيّة تقوم بحرمان الناس من أبسط حرياتهم الاجتماعيّة والانسانيّة والفكريّة.
وفي الوقت الذي أهملت فيه الأنظمة العربية الحاكمة الخدمات العامة والأساسيّة، مثل الصحة والتعليم والرعايّة الاجتماعيّة والنقل أصرّت على “تأميم الدين” أي جعلت منه جزءاً من السلطة السياسيّة وكأنه مسألة سيادة وطنية مثل الدفاع والأمن.
وتحمّلت من أجل ذلك تكاليف ماديّة كبيرة وأنفقت المليارات على التعليم الديني وبناء المساجد وغيرها من دور العبادة وطباعة الكتب الدينيّة، وكرست له الإعلام المرئي والمكتوب والمنابر وقامت بتوظيف رجال الدين الذين رضوا ببيع أنفسهم للسلطان، وتمرّسوا في فنون النفاق والرياء والكذب واستجداء السلطة والسعي خلف المصالح الشخصيّة؛ وشكّلوا جهازاً مأجوراً نذر نفسه لتبرير الأخطاء والجرائم وترويج الأكاذيب والالتفاف على الحقائق ونشر الفكر التآمري وتقديس الفكر الخرافي والانتهازي، لقد شكّلوا حاجزاً أمام نشر الفكر النقدي الحر وسوراً اختفت خلفه واحتمت به كل القيادات والمؤسسات والنخب الفاسدة. وهذا ما أثبتته ثورات الربيع العربي.
في الدول الديمقراطيّة تستمدّ الأنظمة الحاكمة أسباب وجودها واستمرارها من الشرعية والقانون، أما في الدول العربية فتستمد الأنظمة الحاكمة أسباب وجودها واستمرارها من الشريعة والاستبداد. لقد غذتّ هذه الأنظمة الدين مرتين: مرة بقمعها للحريات السياسيّة والاجتماعيّة، وأخرى بالتعويل عليه لتبرير وجودها.
*****************************
ملاحظة: الأرقام الواردة في هذا المقال مقتبسة من كتاب “الثقافة وأزمة الهويّة العربيّة” الصادر عام 2010 عن “منتدى الفكر العربي” للكاتب محمد عبد العزيز ربيع.
المصدر: العربي الجديد – عزام أمين