تغاضت القوى الكبرى عن استمرار الحرب في سورية طوال السنوات الست، واحتفظت، على نحوٍ صارم، بنتيجةٍ غير قابلة للاختراق، وهي منع الحسم النهائي لأي طرف، فالحل سياسي، كما جاء على ألسنة كبار قادة أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأميركا، مع مراعاة كل العبارات البراقة والخادعة، كالدستور الجديد، والديمقراطية، والدولة المدنية، والانتقال السياسي، وهي مصطلحاتٌ عسيرة على التعريف، على الرغم من وضوحها المعجمي، في ظل غبار عسكري كثيف، وجبهات متعدّدة تكاد تغطي الجغرافيا السورية.
تحت عناوين الحل السياسي، تشكَّل وفد أستانة الثاني المعارض، مناصفة بين السياسيين والعسكريين، وأذيعت أسماء أعضائه علناً، مع ذكر ممثلي كل جهة، بينما لم يعرض الإعلام من وفد النظام إلا بشار الجعفري، باعتبار أن بنية هذا الوفد واضحة، وقد عُبِّرَ عنها قبل بدء المفاوضات بإخراج تمثال حافظ الأسد من المستودعات، ونصبه مجدّداً في إحدى ساحات حماة، الشاهدة على أكبر المظاهرات التي عرفتها سورية في تاريخها الحديث.
تكلف النظام أثماناً عسكرية باهظة في ريف حماة الشمالي، وفي داخل حماة ذاتها، منذ دخلت دباباته إليها في وقت مبكر من عام 2011، ويبدو أنه حالياً يشعر بمزيدٍ من الأمان، بسبب التفوق الجوي له، والانحسار الكبير لقوات "الدولة الإسلامية"، فلم يعر اهتماماً للمدينة التي تتضوّر حاجةً إلى مددٍ إنساني، على شكل تأمين الماء والكهرباء، وتعامى عن مشكلاتها التموينية في توفير الوقود الذي تحتاجه في موسم شديد البرودة، وهذه وظائف إدارية، يجب أن يقوم بها تلبيةً لمهامه السياسية في قيادة الدولة، لكنه عوضاً عن ذلك، مارس أسوأ ما يمكن أن تقدمه قيادةٌ لشعبها، وهو إعادة تعويم تمثال الديكتاتور الذي رفضته هذه المدينة بالذات على شكل انتفاضات شعبية عارمة منذ ثمانينيات القرن الماضي وخلال عام 2011.
كان التجاوب الدولي مع الأحداث السورية، ولا يزال، بطيئاً، وجرى ابتلاع كل المشاهد القاتمة بصمت، وكان للمؤتمرات التي عقدت تحت مسمى أصدقاء سورية صرير إعلامي أكبر بكثير من فاعليتها، فلم توازِ، في مجموعها، فيتو روسياً واحداً.
لم يبدُ على النظام أي غضب وطني، وهو يرى مناطقه ومدنه تتهاوى أمام من كان يسميهم العصابات الإرهابية المسلحة. ولم يعرض ساعتئذ أي حل، كان مصراً على معركةٍ عسكرية يحافظ بها على ما تيسر له من الأرض، مع حرصٍ خاص على العاصمة، وخطوط دفاعية مبالغ فيها حول مناطقه الساحلية، أما أداؤه السياسي فكان معاقاً ووجد في الدبلوماسية الروسية بديلاً ممتازاً، فسلمها زمام الأمور.
كان الدأب العسكري ميزة النظام طوال عهدي الأسد الأب ونجله، فقد تعاملا مع المجتمع بآلتهما العسكرية، وخطابهما الثابت المعروف، ولم يمارسا السياسة لا في الداخل ولا في الخارج، والسياسة حرفةٌ وموهبةٌ وتقاليد دولية لم يكن النظام قريباً منها يوماً، بل اعتمد في الداخل على إعلام ذي منبع وحيد، مع مصادرة الأصوات الأخرى، مهما بلغت درجة خفوتها، متكئاً على عناصره المجهزين بعناية لتجفيف أي صوتٍ معارض، ومن خلفهم سجونٌ متفاوتة الضراوة والقسوة، شكلت جزءاً من منطلقات النظام الأمنية، وأداة فاعلة في لجم المجتمع الذي قُسِّمَ إلى فئاتٍ عمرية، من الطلائع حتى الطلبة، ووضع على رأسها حزب البعث ذا الشعارات الشوفينية الجوفاء. وفي الخارج، اعتمد على المساومة ومنطق البيع والمقايضة، وتحلى بدماءٍ باردةٍ وتَرَيُّثٍ بليد إزاء أي قضية، مع خطابٍ إعلامي جاهز دوماً للشتم والتخوين وتحويل القضايا الثمينة إلى متاعٍ بخس، حين يُجْبَرُ على اتخاذ أي موقفٍ ذي جوهر سياسي.
يُستدعى النظام إلى أستانة ليمارس سياسةً لا يعرفها، فيعيد خطاباً ما زال يتردّد في الأفق، منذ تولي حافظ الأسد السلطة، فيتنكّر رجل الأمن في زي مفاوض، والضباط العسكريون في زي مستشارين، لإعادة حكايات المؤامرة الدولية، والعصابات المسلحة، وهو أسلوبٌ يحرص عليه الجعفري حرصه على هندامه الأنيق. وكل أستانة وأنتم بخير.
المصدر: العربي الجديد - فاطمة ياسين
↧