استند حسين على حائط منزله، في إحدى ضواحي مدينة بيروت، ليروي تفاصيل قصة رحلته التي استغرقت 13 يوماً من قرية السويعية في ريف ديرالزور الشرقي إلى لبنان، والتي لا تستغرق في الأحوال العادية أكثر من 10 ساعات في وسائط النقل العامة.
حسين العشريني، كان قد ترك والديه وحيدين في منزلهم الريفي، ليلتحق بركب أخويه عبد وعمر اللذين سبقاه في الهجرة. يقول حسين: "لقد تركت أهلي ومنزلي بعد إن ضاقت أحوالنا الاقتصادية وهرباً من جحيم الحياة في ظل تنظيم داعش، الذي يفرض على المدنيين نمط حياة غاية في الصعوبة والتعقيد".
اختار الشاب الخروج عبر شبكات التهريب من مناطق سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى دمشق ثم لبنان، بعد أن رفض "ديوان الحسبة" منحه "موافقة سفر". فالتنظيم يمنع المدنيين من مغادرة مناطق سيطرته إلى أي مكان آخر، من دون "موافقة سفر" تمنح من قبله، بالإضافة إلى شروط أخرى كتحديد مدة السفر ووجود كفيل مقيم داخل أراضي التنظيم. ومن دون "موافقة السفر، سيعرّضُ المخالف نفسه لعقوبات شتى منها السجن ومصادرة ممتلكاته، فيما يعاقب التنظيم المهربين بالقتل، بتهمة إخراج المدنيين من مناطق التنظيم إلى "أراضي الكفار".
بعد عناء طويل، تمكن حسين من التواصل مع مهرب، ليتفق معه بعد طول أخذ ورد على كافة تفاصيل الرحلة من قريته حتى باب مصلى في دمشق، وتحديد يوم الإنطلاق، والتكلفة للشخص الواحد، والتي وصلت إلى 200 ألف ليرة سورية.
فجر 20 تموز/يوليو، انطلقت رحلة حسين، برفقة أخته واثنين من أبناء أخيه، وأشخاص آخرين، تقلهم سيارة "بيك أب" بيضاء عبر بادية ديرالزور الجنوبية.
وسط البادية القاحلة، لايوجد أي بوادر للحياة، حتى الأفكار غائبة، باستثناء الخوف الذي يعتري الجميع. خوف من إلقاء القبض عليهم من قبل دوريات "الدولة الإسلامية" التي تجوب البادية، أو من غارة جوية تستهدف المركبة، بحجة أنها تقل أحد قياديي التنظيم.
ثماني ساعات كانت طويلة، والسيارة تجتاز هذه القفار الواسعة، لتنتهي بمجرد أن نادى المهرب: "نحن على بعد كيلومترات من مخيم الرقبان على الحدود السورية الأردنية"، والمخيم سيكون مكان الراحة ليوم واحد، ومن بعدها سيكمل الجميع رحلة الخلاص، التي انتهى فصلها الأول بالخروج من مناطق "الدولة الإسلامية" إلى مناطق سيطرة الجيش الحر.
الاستراحة في "مخيم الرقبان" أمنت لحسين ومن معه حماماً بالماء البارد، وقسطاً من الراحة، لينطلق الجميع في اليوم التالي، تقلهم سيارة "حصنية" وهي سيارات يستخدمها البدو كثيراً، تُمنح من الحكومة السورية لهم بأوراق خاصة، وتمنعهم بموجبها من نقل أي شيء باستثناء حاجاتهم المعتادة من خيم وأعلاف خاصة بقطعانهم.
الاتفاق تضمّن أن تكون الوجهة من "الرقبان" إلى دمشق بشكل مباشر، لكن المفاجأة كانت الوصول إلى قوس الدوير على أطراف محافظة السويداء، بعد مسير السيارة لمدة 10 ساعات. وهناك "استقبلتهم" حواجز مليشيات محلية تابعة للنظام.
والمليشيات تمنع الراغبين من أهالي المناطق الخاضعة لسيطرة "الدولة الإسلامية"، من دخول دمشق، إلا بعد دفع مبالغ مادية ضخمة، تحت تهديد السلاح والخطف.
حسين أكد أنه التقى بعائلات خطفت بناتها، على يد تلك المليشيات، ولم يعرفوا بعدها شيئاً عن مصيرهن.
بعد اقتياد الجميع من الدوير إلى مدينة السويداء، تم تخييرهم بين دفع المبالغ المادية المفروضة على كل شخص، أو مصادرة أوراقهم الثبوتية وحرقها ثم إرسالهم إلى "معسكر الطلائع" حيث يحتجز النظام العائلات القادمة من مناطق "داعش" وتحديداً أهالي محافظتي الرقة وديرالزور.
حسين ومن معه، أمضوا 7 أيام متنقلين بين المقوس والكوم وفندق كركاس. حسين لم يجد بداً من دفع المال لعناصر المليشيات لايصاله من السويداء إلى دمشق. وفي اليوم الثامن، دفع حسين 800 ألف ليرة سورية، عنه وعن أخته وأولاد أخيه، للوصول إلى دمشق.
وبعد دفع المال، انطلق الجميع تقلهم سيارة مع ثلاثة عناصر من المليشيات، واستغرق الطريق بين دمشق-السويداء الذي يتم قطعه في ساعة ونصف الساعة، مدة 12 ساعة، مروراً بثمانية حواجز، يضطر العابرون إلى دفع الرشاوى لعناصرها لتسهيل عملية العبور.
دفع المال لا يعني حتمية المرور، فكثير من العائلات تدفع ولكن يتم منعها من العبور في الحواجز الأخيرة، وتطرد بتهمة "الداعشية". غير أن من عايش هذه التجربة يعلم أن المنع، هو فقط بهدف الحصول على مزيد من المال، أو لرفع سعر المرور من السويداء إلى دمشق.
بعد 12 ساعة مليئة بالشتائم والاهانات، مع دفع مبلغ 50 ألف ليرة سورية إضافية، كرشاوى للحواجز، تمكن حسين من الوصول إلى دمشق.
حسين الذي لم يرَ دمشق منذ سنوات، فوجئ بغياب الشباب من المدينة، التي كانت تضج بالحياة في آخر مرة زارها قبل سنوات. فالشباب هاجر منها أو اعتقل لتنفيذ الخدمة العسكرية الالزامية، أو على خلفية أحداث الثورة. متوجساً مما شاهده، قرر حسين الراحة ليوم واحد، ثمّ البحث عن طريقة للعبور إلى لبنان، خوفاً من اعتقاله ومن معه من قبل دوريات الأمن التي تجوب المدينة ليلاً ونهاراً.
يوم الراحة أتاح لحسين التواصل مع سائق التاكسي أبو علي، الذي اقلهم في الصباح إلى منطقة جبلية على الحدود السورية-اللبنانية، لينتظرهم هناك صديق أبو علي، اللبناني أبو جاد، والذي سيتولى مهمة تهريبهم إلى لبنان. في الجبل لا مجال للنقاش، السعر واضح 350 دولار أميركي، عن كل شخص من الحدود السورية إلى بيروت.
بعد تسلم المبلغ، ماهي إلا ساعات حتى التقى حسين ومن معه بأخويه عبد وعمر في بيروت، وسط ظنه بالخلاص من شقاء الرحلة ومضايقات الحواجز وجحيم الحرب ونمط حياة "الدولة الإسلامية" المعقد.
وكما خرج خلسه من قريته شرقي ديرالزور، بات يخرج يومياً، خلسة، من منزله في ضواحي بيروت، إلى عمل كي يفي الأموال التي اقترضها إخوته، لتهريبه إلى لبنان. الخوف من أن تعتقله أحدى دوريات الدرك، أو "حزب الله"، بات يطارده يومياً، وهو الذي لا يملك أوراق دخول نظامية، ولا تصريح عمل.
الأيام التي مضت على وجود حسين في لبنان، وما عاشه خلالها من مضايقات، كانت كافية ليعلم أن الخلاص الوحيد، هو زوال النظام و"داعش"، وغيرهم من الدخلاء، لتعود الحياة إلى بلده وقريته الواقعة على ضفاف الفرات. ذلك هو حلمه الوحيد.