ذكريات شاهد عيان
محمد أحمد الزعبي
٢٠ فبراير ٢٠١٧
- قصة الدكتور سليم بريك. :
ينتمي الطبيب المرحوم سليم بريك موضوع هذه الفقرة ، إلى عائلة عربية مسيحية تعيش في مدينة درعا / المحطة . درس الطب في جامعة دمشق ، وعندما تخرج منها كطبيب رفض عرض أخيه الأكبر فؤاد أن يلتحق به في كندا ، التي هاجر هو إليها بعد أن خرج من سجن " الرفاق " الذين كان يعمل معهم كواحد من ضباط انقلاب الثامن من آذار عام ١٩٦٣ . لقد كان سبب رفض سليم عرض أخيه فؤاد هو أنه يريد أن يبقى في سوريا ليخدم وطنه كطبيب .
وبينما كان يمارس مهنته في أحد مستشفيات دمشق ( لاأذكر اي مستشفى ) ، جاءته ذات يوم طفلة مدماة الوجه والرأس والجسد ، لكي يقوم بمعالجتها بما هو طبيب ، ومن المعروف في مثل هذه الحالة ، أن يسأل الطبيب مريضه / مريضته عنسبب الإصابة ، وفعلاً سألها خلال معالجته لجراحها عن سبب ماحل بها ، فأجابته لقد ضربني " سيدي " الذي أعمل عنده كخادمة ، وهنا سألها : ومن هو سيدك ؟ فأجابت : إنه الملازم أول في سرايا الدفاع فلان الفلاني وهو من أحضرني بسيارته إلى هنا ، وهو ينتظرني الآن في الخارج لكي يعيدني إلى البيت معه وهنا قام الدكتور سليم بواجبه المهني ، فأخبر الجهة القضائية المختصة ، التي أرسلت إلى المستشفى ثلة من الشرطة لإلقاء القبض على الضابط وجلبه للتحقيق ، وعندما وصل رجال الشرطة وطلبوا منه مرافقتهم ، سألهم ومن الذي أخبر القاضي بالأمر ، فأجابوا طبيب اسمه سليم بريك ، وهنا هاج وماج سيادة الملازم أول واندفع إلى غرف المعالجة يبحث عن هذا السليم بريك الذي تجرأ على إخبار الشرطة عن قضية تتعلق بواحد من عناصر " القائد " ، ولكن ممرضات المستشفى استطعن إخفاء سليم الذي تذكر الآن عرض أخيه فؤاد فندم على عدم سماعه نصيحته ، فحزم أغراضه وركب الطائرة في اليوم التالي متوجهاً إلى الحدود الكندية الأمريكية ليلتقي أخاه فؤاد هناك ، وتبدأ في حياته مرحلة جديدة ، بعيداً عن بصاطير عسكر " الرفاق " .
لقد زرته من جهتي ذات يوم في بيته في مدينة ( لاأتذكر الإسم ) الأمريكية ، وقد روى لي بنفسه الحادث الذي ذكرته أعلاه .
- ، حكاية إحمد المصطفى العبد المجيد ( أحمد الزعبي ) أر
أرغب بالاشارة بداية إلى أنني قد غادرت سفينة البعث على مرحلتين ، الأولى كعضو في القيادة القومية وأمين عام مساعد للحزب بتاريخ ٢٦.٣.١٩٦٧ ، والثانية كوزير للإعلام مباشرة بعد حرب حزيران عام ١٩٦٧ . وما أريد أن أقوله هنا وبالعلاقة مع عنوان هذه المقالة ، هو أنني كنت في بيتي. عندما جاءني خبر وفاة المرحوم أحمد الزعبي ( تحت التعذيب ) وفي مخابرات القوى الجوية التابعة لحافظ الأسد . حين سافرت مباشرة إلى قريتي وقرية المرحوم أحمد الزعبي ( المسيفرة ) وكنت شاهد عيان لهذا الموضوع .
إن توقفي عند هذه الحادثة التي قارب عمرها على النصف قرن ، إنما يعود لتقديري أن كثيراً من المواطنين السوريين ، ومن ضمنهم الكثير من أعضاء حزب البعث نفسه يجهلون تفاصيلها وذلك بسبب التعتيم الإعلامي الكامل عليه ، كونه يعود إلى فترة ماقبل انقلاب حافظ الأسد على حركة ٢٣ شباط ١٩٦٦ ، ولأن مسألة الموت تحت التعذيب كان حتى ذلك التاريخ من الكبائر السياسية في سوريا التي يقتضي طمسها والسكوت عليها . إن قصة المرحوم أحمد المصطفى هي ( إذا لم تخني الذاكرة ) كما يلي :
أحمد مواطن عربي سوري من قرية المسيفرة كان عضو اً في الحزب الشيوعي السوري ( قبل التشرذم ) ، كان يتقدم باستمرار للحصول على وظيفة يعتاش منها ، غير أن ( الشعبة السياسية ) كانت له بالمرصاد ، وكانت ترفض الموافقة على توظيفه بحجة شيوعيته ، وعندما أصبحت وزيرا للإعلام في حكومة يوسف زعين عام ١٩٦٦ قمت فورا بتوظيفه في مؤسسة سانا التي كان يرأسها يومئذ المرحوم حسين العودات . وفيما علمته لاحقا أن هناك قريبان له من قرية المسيفرة كانا يؤديان " خدمة العلم " في مدينة دمشق فكانا يزورانه في بعض المناسبات ، وبلدات في عطلة نهاية الأسبوع ، فاعتبرت مخابرات القوى الجوية ( محمد الخولي ) أن الأمر يتعلق بخلية شيوعية داخل الجيش ، فاعتقلت الثلاثة ، وقامت بواجبات استضافتهم المعروفة والتي وصلت هذه المرة حد موت المرحوم أحمد المصطفى ( تحت التعذيب !!) . لقد تم تسليم الجثة إلى الشرطة العسكرية بدرعا ، وكانت موضوعة داخل ( تابوت ) كتب عليه " الشهيد أحمد الزعبي " والادعاء بأنه قد استشهد في فلسطين ، بينما كان يقوم بواجبه الوطني هناك . اتصلت الشرطة العسكرية بوالد " الشهيد !!" وطلبت منه أن يحضر إلى درعا لاستلام الجثة . عندما علمت من جهتي بالخبر سارعت بالذهاب إلى قريتي المسيفرة ، ( تبعد ٢٠ كم فقط عن مدينة درعا ) لآجد الأهالي قد تجمعوا بالمئات في باحة دار ( ابو أحمد ) ، وهم يتشوطون غضبا ، ويرفضون حفر القبر قبل أن يشاهدوا الضحية ويعرفوا السبب الحقيقي للوفاة . أقنعت من جهتي العم " أبو أحمد " بضرورة أن نذهب إلى درعا ونستلم الجثة . وبالفعل ذهبت وإياه بسيارة خاصة إلى درعا ، واستلمنا التابوت من الشرطة . العسكرية وقد كتب عليه ( باللمسخرة ) " الشهيد أحمد الزعبي " وسلمونا مع التابوت تقريراً طبيا موقعاً من الدكتور عبد الرزاق الشيشكلي يثبت أن أحمد قد استشهد في فلسطين ( باللمسخرة مرة أخرى ) ، لقد كانت الكذبة مفضوحة بالنسبة لي كوني أعرف أن الدكتور عبد الرزاق الشيشكلي لم يكن يومها في سوريا آصلاً ، وجاءت معنا سيارة شرطة عسكرية إلى القرية لمنع أهل الضحية أو أهالي القرية من فتح التابوت ومشاهدة آثار التعذيب . واقع الحال لم يحل وجود بضعة أفراد من الشرطة العسكرية من اندفاع أهل القرية إلى التابوت وكسره ليروا بداخله جسداً غابت معالمه تحت وطأة التعذيب ، فأغلقوا التابوت بسرعة من هول مارأوا ، ( كنت أقف مع المئات خار مضافة أبي أحمد حيث التابوت ) وقام بعدها أهل القرية بحفر القبر ، وسارت خلف التابوت جنازة مهيبة المسموع فيها هو " لاإلاه إلا الله " أما المخفي ( غير المسموع ) فهو بالتأكيد أعظم .
في اليوم التالي للدفن ، شاهدت في جريدة الحزب الشيوعي نعياً لأحمد الزعبي وتنديداً بالطريقة التي قتل فيها ، ولكن الجريدة الشيوعية قد تجاهلت أن النقيب مصطفى السمانة مات بدوره بنفس اليوم وبنفس الطريقة ولكن بتهممة أخرى هي الانتماء إلى بعث العراق . ، سافرت فورا إلى دمشق وذهبت إلى بيت الأستاذ خالد بكداش ( أبو عمار ) وقلت له : يبدو أنكم ياأبا عمار ضد تعذيب الشيوعيين فقط ، ولستم ضد التعذيب من حيث المبدأ ، فسألني كيف ؟ فقلت له : أنت تعلم أن النقيب مصطفى السماني قد مات تحت التعذيب أيضاً وبنفس اليوم الذي مات في أحمد ولكن جريد تكم ( طريق الشعب ) لم تنع وتذكر إلا أحمد الزعبي باعتباره شيوعياً وتجاهلت الآخر ! . فقال لي " الحق معك " وسوف نقوم بتلافي هذه الخطيئة ، وفعلا قامت الجريدة في اليوم التالي بنعي النقيب مصطفى السمانة .
ذهبت بعدها مباشرة إلى أحد الأصدقاء ( إليا شديد ) الذي كان يشغل مديرا لإحدى الشركات الصغيرة التي قمنا بتأميمها (!) فآخبرته بقصة أحمد الزعبي ، وقلت له : يجب أن تطرحوا هذه القضية ( الموت تحت التعذيب ) في منظماتكم الحزبية ، وكان جوابه لي ، أن أخرج باكيت سجائر " بول مول " من درج مكتبه الفخم ، وقال لي : رفيق محمد أنتم من أوصلنا إلى هذا ( وأشار بيده إلى باكيت البول مول ) وبات من الصعب علينا التخلي عنه ، ولذلك فلن أطرح الموضوع في فرقتي الحزبية (!!). أدركت حينها أن سرطان " الإنتهازية " قد بدأ يتفشى في جسم الحزب .
بعد بضعة أ سابيع زارني رجل دين في بيتي ، وطلب مني المساعدة في معرفة مصير ألشخصين الآخرين اللذين اعتقلا مع ابن عمهما آحمد . اتصلت بمصطفى رستم ( كان عضواً في القيادة القطرية والمسؤول عن التنظيم الحزبي العسكري فيها ) ورغبت إليه أن يستفسر عن مصير هذين الشابين ، فطلب مهلة يومين ، أعلمني بعد مرورهما أن الشابين مازالا على قيد الحياة وهما في أحد السجون ، فآخبرت الشيخ بهذا الخبر الذي وصلني من مصطفى رستم .