قلما وصلتنا من المصادر التاريخية التي بين أيدينا صورة متكاملة عن النساء في عالم الشعر والأدب، ففي أغلب الأحيان، نجد أخبارهن في باب مخصص لهن في نهاية المؤلفات، حيث يترجم لهن بشكل موجز مع معلومات عامة لا تسمح بالتعرف على شخصياتهن أو إبداعهن.
ومع ذلك فإننا نستطيع أن نعيد بناء ملامح للشاعرات في تاريخنا من نثرات القصص المبعثرة في صفحات كتب الأدب والتراجم، التي تأتي في أغلب الأحيان ضمن سياقات معينة، لا يلعبن فيها دوراً محورياً فيها. فنجد قصائدهن، مثلاً، ضمن مراسلات العشاق أو معارضات شعرية (والمعارضة هي أن ينظم الشعراء قصيدة على غرار قصيدة سابقة، تحاكيها في القافية والوزن والموضوع). ولذلك يصعب الحكم على جودة أشعارهن، إذ لم يصل إلينا منها إلا القليل.
من غرناطة في عصر المرابطين
تختار المقالة قصة نزهون بنت القلاعي من القرن الثاني عشر الميلادي، أي عصر المرابطين في الأندلس، وكان عهدهم، رغم كل ما اتهم به هؤلاء البربر القادمين من الصحراء الإفريقية من التعصب، من أكثر العصور نشاطاً للأديبات، وخاصة في مدينة غرناطة، واحدة من أهم مدن عصرها في شبه الجزيرة الإيبيرية.
وإذا أخذنا شح أخبار النساء الشاعرات في كتب التراث بعين الاعتبار، فإن ما حافظت عليه المصارد عن حياة نزهون الماجنة وأشعارها الهجائية، مفاجئ بوفرته، فقد وصلتنا أشعارها وأخبار عن حياتها، التي كانت موضوعاً تداوله الرواة في روايات عدة، مع أننا نعرف القليل عن أصلها أو طبيعة علاقاتها مع الرجال الذين تعاملت معهم.
قال عنها الضَّبّي في كتابه "بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس" أنها "كانت سريعة البديهة حاضرة الجواب"، وأما ابن الأبار، فقال عنها في مصنفه "التكملة لكتاب الصلة" أنها "كانت صاحبة فكاهة ودعابة وكانت ماجنة"، وكذلك ابن سعيد المغربي الذي وصفها أنها: "شاعرة ماجنة كثيرة النوادر".
عاشت نزهون في غرناطة تحت ظل أبو بكر محمد بن سعيد، الذي كان مولعاً بها. ونعرف عن طريق قصيدة أرسلها لها أنه كان يغير عليها من كثرة صحبتها للرجال فيقول:
يا من ألفُ خِلٍّ من عاشقٍ وصديقْ
أراكِ خلَّيت للناس منزلاً في الطريق
قد يتساءل القارئ كيف يمكن لرجل في مكانته أن يسمح بمثل هذا التجافي؟ قد يعود ذلك إلى سرعة بديهة نزهون وذكائها، إذ عرفت كيف تحافظ على مكانته المميزة، مجيبة في هذه المناسبة أنها تقدمه على سواه، كما قدم أهل الحق أبي بكر الصديق على غيره، لما له من سابقة في الإسلام.
شاعرة حرّة سليطة اللسان
مما يمكن إعادة نسجه من كتب التراث، نحن نعرف أن نزهون لم تكن من الجواري، وكذلك كان حال معظم الشاعرات الأندلسيات، ولكن الحرية التي تمتعت بها نزهون كانت مع ذلك نادرة. وقد لعب دوراً في ذلك ما اشتهر عنها من سلط اللسان، إذ كان يسعفانها دائماً في تعاملها مع الرجال.
عرف عن والي غرناطة أبو بكر بن سعيد حبه للمجالس الأدبية، فكان يجمع فيها أشهر شعراء عهده الذين كانوا يسافرون إلى غرناطة خصوصاً لحضور هذه المجالس في قصوره. وأما نزهون، فكانت هي أيضاً ضيفة على هذه المجالس، تتعامل مع هؤلاء بطلاقة تحت رعاية الوالي.
هجاؤها للمخزومي وابن قزمان
وصلنا من أشعارها سبع قصائد قصيرة، يتميز معظمها بهجاء لاذع وألفاظ غير لائقة لا نجدهما إلا عند شاعرتين أندلسيتين سبقتاها في هذا المجال، وهما ولادة بنت المستكفي ومهجة بنت التياني. يمكننا أن نقول أن شهرة نزهون تعود إلى هجائها لشاعرين معروفين من شعراء عهدها هما: أبو بكر المخزومي الأعمى وابن قزمان الزجال. فهل دخلت التاريخ لجرأتها؟
كان المخزومي ذا لسان سليط مثلها لا يسلم من هجائه أحدٌ، حتى أبناؤه. وقد تبادلا شعراً ونثراً يحتوي على ألفاظ يخجل منها حتى محققي المصادر التي ترد فيها مناوشاتهما فيحذفونها، رغم إيرادها في المخطوطات، ومنها، تعرّض المخزومي لها متهماً إياها بالكبرياء رغم فحشها، إلى درجة أنه ينوه بعلاقة جنسية بينهما فيقول:
ألا قل لنزهونة ما لها تجرُّ من التِّيه أذيالها
ولو أبصرت فَيْشةً شَمَّرِتْ ـ- كما عّوَّدَتْني - سِرْبالها
فتجيب هي بما هو أشنع:
قُلْ للوَضيعِ مقالاً يُتْلى إلى حين يُحْشَرْ
من المدوَّر أُنْشِئْت والخرا منه أعْطَر
تدخل أشعارهما المتبادلة في مجال الدعابة، التي كانت من غير شك تضحك الجالسين في الأسمار، فقد عرفت نزهون بخفة الروح والحلاوة وسرعة الجواب. ولا شك أن علاقتها مع المخزومي كانت علاقة صداقة متينة، فقد كانت تجالسه وتأخذ منه الشعر، فكان يقال "لو كنت تبصر من تجالسه"، وتجيب هي متباهية بفتنتها، "لغدوت أخرس من خلاخله".
كانت إذاً امرأة فصيحة تسلط سيف لسانها للمدافعة عن نفسها وتستخدم الهزل لصالحها لتضحك الرجال بينما هي تتمتع بحرية الرأي والقول في عالم الذكور، فكان الفحر والهجاء سلاحٌ يمنع الآخرين من التجرؤ على انتقادها في الملأ والتقليل من قيمتها. وهي القائلة مفاخرةً بنفسها وبجودة شعرها:
إن كنتُ في الخَلْقِ أُنْثى فإنَّ شِعْري مذكَّر
وأما قصتها مع ابن قزمان فطرفة أخرى من طرفها. وكان ذلك عند وصول هذا الزجال الشهير إلى غرناطة للقاء الوالي ابن سعيد في قصره، لابساً غِفارة صفراء، وهي زي الفقهاء في ذلك الوقت. وكان ابن قزمان معروفاً أيضاً بالمجون وشرب النبيذ، ولا شك أنه كان يبغي التهكم من فقهاء عصره فقد كانت سلطتهم قوية في عصر المرابطين.
عندما رأته نزهون قالت له: "أصبحت كبقرة بني إسرائيل ولكن لا تَسُرُّ الناظرين"، قاصدة معجزة البقرة الصفراء في قصة النبي موسى. فقال لها: "إن لم أسُر الناظرين، فأنا أسُر السامعين، وإنما يُطلب سرور الناظرين منك، يا فاعلة يا صانعة".
كل هذه الروايات في العصر المرابطي تدل على حاجة الناس الماسة إلى الترفيه عن الذات، كما أنها تقدم لنا لمحة على مجتمع دفعه التعصب إلى المجون الكاريكاتوري.
نزهون، بكل صراحة
أغلب الظن أن نزهون كانت امرأة جميلة من أصل شعبي تحفظ وتقرض الشعر، كالشاعر الأعمى، الذي كانت تعيره لكونه من البادية، أو الزجال. ونذكر هنا أن المرابطين لم يكونوا مهتمين كمن سبقهم من ملوك الطوائف بالشعر العربي البحت، ولذلك برز في الأندلس في عهدهم فنون أدبية شعبية على رأسها الزجل.
ومن المؤكد كذلك أن هذه الشخصيات الشعبية ذوات اللسان الفاضح والجرأة في المعاملة، وجدت مكانة لها في مجالس الوالي الذي أراد أن يحاكي من جاء قبله في تعامله مع أدباء عصره.
ولا يسعنا إلا أن ننهي سيرتها الموجزة ببعض ما قالت بصراحة عن مجونها:
لله درُّ اللّيالي ما أُحيسنها وما أُحيسن منها ليلةَ الأحَدِ
لو كُنت حاضرنا فيها وقدْ غفلتْ عينُ الرقيب فلم تنظرْ إلى أحدِ
أبصرتَ شمس الضُّحى في ساعدَيْ قمرٍ بل ريمَ خازمةٍ في ساعدَيْ أسدٍ
المصادر والمراجع: Diwan de las poetisas de al-Andalus لـTeresa Garulo - التكملة لكتاب الصلة، ابن الأبار - الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين ابن الخطيب.
بقلم ليلى جريص نافارو
رصيف 22