تكمن السياسة الروسية في وهم استعادة دور الاتحاد السوفييتي العالمي، وأن تلعب دوراً مركزياً في العالم، والانطلاق من نتائج الحرب العالمية الثانية في دعم سيادة الدول، والتدخل عبر ممثلي هذه الدول، كما في سورية. وفي حال تعذر ذلك، هناك الغزو التقليدي، كما حصل في أبخازيا والقرم. روسيا لم تفهم السياسة الأميركية جيداً؛ فالانسحاب في مرحلة أوباما كان لأسبابٍ متعدّدةٍ، وكذلك لجذب روسيا إلى التحالف معها في استراتيجيتها ضد الصين، والتي لا تزال قائمة في زمن دونالد ترامب. روسيا رفضت ذلك، وتقدمت بسياسةٍ توازي السياسة الأميركية عالميّاً وفي منطقتنا، وهي إعطاء إيران دوراً في المنطقة، وكذلك تركيا وإسرائيل، وتهميش العرب واللعب على الأكراد، والضغط على هذه الدول، حينما تتضرّر المصالح الروسية. الخلاف هنا أن أميركا تسمح بتقدم إيران من موقع توريطها بحروبٍ مع العرب، وجذبها ما أمكن إلى صالح التحالف ضد الصين، وتغليب الاتجاه الإصلاحي على الاتجاه المحافظ فيها. الضعف الروسي عالمياً تُدركه إيران وتركيا وإسرائيل. ولهذا، نجد نديّة معينة في التعاطي معها، بخصوص السياسة في منطقتنا والعالم، فتركيا تختلف مع روسيا بمسائل معينة، ولا سيما بخصوص مجمل الوضع السوري، وكذلك نجد اختلافاتٍ تتصاعد بين روسيا وإيران، بخصوص الوضع في سورية. وأيضاً لإسرائيل حساباتها في كل المنطقة، والتي قد تتوافق أو تتباين مع روسيا، ولا سيما إزاء الموقف من إيران أو حزب الله وغيرهما.
ما لم تفهمه روسيا، وهي بصدد احتلال سورية، وبطلبٍ من نظامها ومن إيران، أنّ عليها أن تحسم العلاقة مع النظام وإيران ذاتهما. ربما سبب تأخُرُ ذلك عدم رغبة روسيا في التورط
بالمعارك بريّاً، وهي التي خسرت في أفغانستان، ولا تنسى خسارة أميركا في فيتنام، لكن ذلك يشلّ يدها، ويُعطي لإيران الأحقية في دور أكبر للسيطرة على سورية مستقبلاً، وليس الآن فقط. تم التدخل الروسي بموافقة أميركية، وكان يمكن لروسيا أن تسيطر بشكل كامل على سورية، لو قرأت جيداً السياسة الأميركية تلك، لكن التردّد الروسي، بل والغباء، هو ما فعلته في السياسة بخصوص سورية، وهذا ما استفادت منه تركيا وإيران وإسرائيل، وعزّزت جميعها مواقعها في سورية. الخلافات بين روسيا وتركيا والتوافقات لاحقاً بينهما لا تعني بأي حالٍ أن هناك تحالفاً قويّاً بينهما، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التغيرات الجديدة التي رافقت وصول ترامب، وإعلانه عن مناطق آمنة في سورية أو تحرير الرقة؛ حيث استدارت تركيا فوراً نحو الخليج، وساهمت بدورٍ ما في فتح جبهة الجنوب السوري، وخفضت من التمثيل في أستانة 2. إذاً روسيا أخطأت في التردّد إزاء حسم تحالفاتها مع إيران، وضرورة تحجيمها بشكل كبير، وأخطأت بتبني خطاب النظام إزاء المعارضة والفصائل، وحتى حينما اتفقت مع تركيا والفصائل، وعقدت لقاءات أنقرة وأستانة، لم تفرض توافقاتها تلك على إيران، وبقيت الأخيرة تُعطّل التوافقات، وتضعف بنودها كذلك، وظلت روسيا تقلّل من شأن الانتقادات التركية أو المعارضة، بخصوص رفض أن تكون إيران ضامنةً لوقف إطلاق النار، وكذلك بخصوص إجلاء المليشيات الطائفية التابعة لها من سورية.
السياسة الأميركية الجديدة، وعلى الرغم من إشارات ترامب إلى علاقة وثيقة مع بوتين، فإنها لن تختلف كثيراً عن سياسة أوباما، لكنها ستستعيد بعضاً من سياسات بوش وكلينتون، أي العودة إلى لعبِ دورٍ مركزيّ في المنطقة، وإن ظلت استراتيجيتها الأساسية تتمركز في مواجهة الصين؛ وبرز بشكل واضح رفضها الوجود الإيراني في العراق، والتنديد بوجودها في كامل المنطقة العربية، وفي التصريحات الرافضة حل الدولتين، ودعم إسرائيل في دولة واحدة وضد العرب. وأخيراً رفض التهميش الذي فرضته روسيا وإيران ضدها في اجتماعات أستانة بخصوص الوضع السوري.
فتحت أميركا عملياً جبهة الجنوب، وقطعت الطريق على تنسيقٍ أكبر بين الأردن والنظام،
وكذلك لإحكام إغلاق المعابر بين الدولتين، بدلاً من فتحها، كما كان مأمولاً للنظام السوري، وقالت بمناطق آمنة، كان أوباما يرفضها من قبل، ولصالح تركيا وربما الأكراد، وكذلك في الجنوب، وأعادت العلاقات القوية مع السعودية تحديدا. وبالتالي، انتهى جنيف 4 قبل أن يبدأ؛ النظام لم يفعل شيئاً لنجاحه طبعاً، فهناك التنديد بتركيا، وتقديم شكوى لمجلس الأمن الدولي، باعتبارها محتلة لأراضي سورية، وعدم إيقاف إطلاق النار والاستهزاء بوفد هيئة التفاوض إلى جنيف 4، واشتراط أن يتضمن المنصات التابعة لروسيا.
كل ما تقدم، ولم تُعلن بعد أميركا سياسةً واضحةً ودقيقة إزاء تركيا وسورية والأكراد والوجود الروسي في سورية؛ إذاً أخطأت روسيا كثيراً في فهم السياسة الأميركية، والآن بدأت تُحاصر في سورية، وربما غداً في أوكرانيا، لا سيما أن المواقف الأميركية إزاء أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لم تستقر بعد، لكنها كذلك قد لا تبتعد كثيراً عمّا كان في زمن أوباما، مع تشدّدٍ أكبر بخصوص تمويل الحلف الأطلسي، فلا يمكن لأميركا دفع أوروبا نحو سياسات تقاربٍ مع الصين أو روسيا.
الآن، تُقدم الخطط لتحرير الرقة، وهناك خطة روسية أيضاً، وليس فقط خطط تركيا أو خطة قوات سورية الديموقراطية. وهذا يدلّ على أن روسيا بدأت تتراجع مواقعها في سورية؛ تحصين روسيا لنفسها بمعاهداتٍ عسكرية، ومحاولتها السيطرة على السلطة السورية والمطارات العسكرية، وإرساء قواعد عسكرية واتفاقيات اقتصادية وسوى ذلك، لا يحصّنها في حال اعتُمدت سياسة أميركية متمايزة عنها إزاء الوضع السوري؛ فروسيا وعلى الرغم من ثقلها العسكري في سورية، ظلّت بحاجة إلى إيران وتركيا، والآن تُراقب كما العالم التغيرات في السياسة الأميركية إزاء سورية والعالم.
قصدت أن روسيا لم تخطئ فقط بتأخرها حسم التناقض مع إيران وإرساء تحالف قوي مع تركيا. وبالتالي، فرض حل سياسي في الفترة الانتقالية لانتقال السلطة في أميركا، بل وتكمل الخطأ بقصفٍ همجيٍّ لكل المدن السورية، تجدّد مع فتح جبهة درعا، وكذلك تحاول التضييق على تركيا في مدينة الباب، وتقترح خطة لتحرير الرّقة، عبر قوات النظام.
روسيا احتلالٌ زائلٌ من سورية لما ذكرناه، وهي ككل احتلال تتوهم السحق الكامل للشعب الأصلي؛ روسيا جاءت لمواجهة ثورةٍ شعبيةٍ، وستزول بحربٍ وطنية قادمة.
المصدر: العربي الجديد - عمار ديوب
↧