من مساخر الأقدار ومهازل هذا الزمان أن يجد مواطنون عرب أنفسهم في موضع الدفاع عن وطنيتهم ومواطنيتهم، في وجه حملات ما أن تهدأ حتى تتجدّد بصورة أو بأخرى، وذلك على خلفية عقيدتهم الدينية، ونعني بهم العرب المسيحيين الذين تتضافر عليهم ضغوط متراكبة: سياسية واجتماعية وثقافية. وإذ يصادفون أصواتاً ومنابر تدافع عنهم بحرارة وتزكّي وطنيتهم ومواطنيتهم، إلا أن هذه "الفزعة" لا تمنع من تجدّد حملاتٍ، يصدر بعضها "زلة لسان"، كما في تفوّهات اللواء جبريل الرجوب أخيراً، وبعضها يتسربل بموقف عقيدي، كما في مقال كتبه عامر شماخ في بوابة "الحرية والعدالة"، ندّد فيه بالحق الممنوح بعد احتباس طويل لمسيحيي مصر ببناء دور عبادة لهم، وبعضها يتخذ صيغة مجاملات اجتماعية، أو يلتمس مصلحةً سياسيةً أو انتخابية آنية، وبعضها الآخر يصدر عن احترام تام لموقعهم في المجتمع وفي الوطن، ويحذّر من عقابيل الطعن بمواطنية أحد بسبب انتمائه الديني، ما يفتح باباً لمتواليةٍ من عمليات الفرز والإقصاء والتقريب.
يجدر بالتنويه، هنا، أن إرث الحياة الوطنية المشتركة، والإخاء المتجذّر عبر القرون، يحدّان في مجتمعات عربية عديدة في المشرق من تفاقم الظاهرة. وذلك بحد ذاته جيد، غير أن إشاعة مناخٍ من التشكيك والتوجس، ووضع المسيحيين في موضع الدفاع عن أنفسهم، والبرهنة على وطنيتهم، ليس أمراً جيداً، أو يمكن السكوت عنه، بحجة أن الأمور تحت السيطرة، فواقع الحال أن ما هو مسيطر عليه هو التجاوزات الجسيمة الجنائية أو ما يضاهيها، أما وقائع بث مشاعر الكراهية والتفريق بين مكونات الشعب والأمة فليس مسيطراً عليها، وتلك، بطبيعة الحال، ليست مهمة السلطات وحدها، بل هي مهمة القوى الحية في المجتمع أولاً، ليس بالدفاع عن طائفةٍ أو مكوّنٍ بعينه، بل بالتمسك بمبدأ المواطنة وبمقتضيات العدالة والمساواة، بصرف النظر عن الدين أو العرق او الجنس. وتشمل القوى الحية المفترضة رجال الدين، والمؤسسات الدينية، حيث من المطلوب دائماً تفادي الخلط بين الأمور العقيدية وحقوق المواطنة، فالمسلم أخو المسلم في العقيدة، لكنه أخو المسيحي أيضاً في الانتماء الوطني والاجتماعي، ومن شأن المساس بالمسيحي، بما في ذلك الانتقاص من حقوقه، لسببٍ يتعلق بانتمائه الديني، أن يطعن بالقيم الوطنية والإنسانية، وأن يجعل من الشعب، أي شعب، مجموعة طوائف، وهو المحذور الذي طالما وقف ضده الوطنيون، بمختلف انتماءاتهم في كفاحهم الوطني ضد الاستعمار، وفي تطلعهم لمجتمع ينعم بالحرية والاستقلال.
لم يُبالغ متحدثون في مؤتمر كنائس الشرق الأوسط الذي انعقد في عمّان، ابتداء من يوم 6 سبتمبر/ أيلول الجاري، حين تحدثوا عن استهجانهم النظر إليهم مواطنين من الدرجة الثانية. وقد توجّه متحدّثون أمام المؤتمر، وهو الحادي عشر من نوعه ويعقد أول مرة في عمّان، داعين الشركاء في الوطن من رجال الدين المسلمين إلى موقف صريح و"رسمي"، وبصيغة "فتوى" مثلاً، لتحريم المساس بحقوق المسيحيين أو تبخيس مواطنيتهم، على ما تحدّث به رجل الدين العراقي مار لويس ساكو، بطريرك بابل للكلدان أمام المؤتمر الذي ضم ألف شخصية من رؤساء الكنائس أو ممثلين عنها...
والرسالة هنا أن مواقف التعاطف والتضامن مع المسيحيين جيدة، لكنها ليست كافيةً، وبدليل أنها لم تحِدّ من السلبية التي يتعرّض لها المسيحيون بصور شتى، وأن ما ينقص المواقف الإيجابية هو" قوننتها" برفع أي غطاء ديني عن المتطرفين والمتشدّدين، والذين يسهل أن يستثيروا تطرفًا وتشدّداً لدى الطرف الآخر المستضعف والمستهدف.
لا مكان في غالبية الدساتير العربية للتمييز بين المواطنين، غير أن السياسات المتبعة لا تحتكم دائماً إلى ما يقتضيه الدستور، وإلا فما الذي يمنع أن يتولى مواطن مسيحي كفء مناصب عليا في الدولة؟ ولماذا منح المسيحيين كوتا في الوظائف وفي البرلمان، في غالبية الدول العربية المشرقية، بدل أن تكون الفرص متاحةً للجميع حسب كفاءاتهم؟ ألا يؤدي ذلك إلى فرز مسبق بين المواطنين، ينعكس على الوعي الاجتماعي وعلى الثقافة السائدة؟ ألا يؤدي هذا التصنيف إلى إشاعة مناخٍ تستيقظ فيه الهويات الأولى والفرعية، وتتعزّز على حساب المواطنة العادلة الدستورية؟ وهل يُعقل أن يثور جدل حول جواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم، أو تقديم العزاء لهم في أتراحهم، بعد كل ما قطعته المجتمعات العربية من تطور في التعليم، ومن انفتاحٍ على العالم، ومن إصلاحاتٍ دستورية؟. أجل.. من يثيرون هذه الأطاريح هم فئةٌ بعينها من المحافظين المتعصبين، غير أن هذه الفئة ليست هامشية، وكون المثقفين والعقلاء والمتنورين لا يختلطون بهذه الشريحة لا يعني أنها ضئيلة الحجم، فثمّة فقراء كُثر يستعينون على ضنك العيش بالتشدّد بالمعتقدات، وثمّة موسرون يرومون الحفاظ على ثرواتهم ورَدّ أعين الحاسدين بالتسربل بعباءات التزمت.
يتعين القول، بعد هذا العرض، إن الاختلال في العلاقات بين مكونات المجتمع في العقود الثلاثة
الماضية يتغذّى، إضافة إلى ما سبق ذكره، من مناخٍ سلبي أشدّ عموميةً وشمولاً، ويلقي بظلاله على إيقاع الحياة وأمزجة الأفراد وسلوكهم، من أزماتٍ معيشيةٍ طاحنةٍ، تسود فيها مشاعر الكراهية تجاه الآخرين، وأحيانا تجاه الذات التعسة، من جهة، وبتطلعاتٍ طبقية محمومةٍ ونهمٍ على الاستهلاك من جهة ثانية، وبتذرّر اجتماعي عام، تتهتك فيه العلاقات التقليدية من روابط الدم والقرابة والمصاهرة، وكذلك العلاقات الحديثة من زمالات العمل إلى الصداقات الحرة إلى الشراكة في تيار سياسي وفكري واحد، حيث تحل بدلاً من ذلك كله نوازعُ فرديةٌ طاغيةٌ تمتزج فيها الأنانية بالتكاذب، مع الاستخفاف بكل غيرية إلى درجة الازدراء.
في هذا المناخ، تضعف الصلات بين المسلمين والمسيحيين، كما تذوي، بالقدر نفسه، الأواصر بين المسيحي والمسيحي، بين المسلم والمسلم، ولا تنال القضايا الوطنية أو الشؤون الاجتماعية العامة إلا أقل الحظوظ من الاهتمام الفعلي، بما في ذلك مسألة صيانة العلاقة بين مكونات المجتمع. وهذا ما يفسر ضمور البرامج والمشاريع الفكرية التي ترمي إلى تمتين النسيج الاجتماعي، وردم الفجوات بين شرائح المجتمع، لدى الأحزاب وتيارات المجتمع المدني. وذلك لا يمنع، وينبغي أن لا يمنع، رفع الصوت ضد المساس بحقوق وعقائد شريحة واسعة وأصيلة من المجتمع، أبناؤها هم حقاً "أصل هذه المنطقة"، كما قال الأمير غازي بن محمد، مستشار العاهل الأردني للشؤون الدينية في كلمته الافتتاحية أمام مؤتمر الكنائس، وليسوا أبداً فئةً طارئة أو هامشية، كما تزيّن لبعضهم أوهامهم، فهم الأبناء الأوائل والبناة المؤسسون لدول هذه المنطقة، كما هم روادٌ في التوحيد الإيماني.
المصدر: العربي الجديد - محمود الريماوي
↧