د. خطار أبو دياب: العرب
يستمر الرقص الجنائزي فوق الركام السوري في لعبة يقودها المايسترو الأميركي ويندفع فيها العراب الروسي، ويستمر منذ أواسط يوليو الماضي انتظار الاتفاق الروسي-الأميركي العتيد بخصوص وقف القتال والانطلاق إلى الحل السياسي. لكن الوقائع منذ اتفاق وقف الأعمال العدائية في فبراير الماضي لا تبشّر كثيرا بوجود إرادة سياسية عند هذا الثنائي، بل تشي بالإمعان في الاستعصاء والتفكّك والتطهير الفئوي وبلورة مناطق نفوذ داخلي وخارجي.
في مرحلة الأشهر الأخيرة لولاية باراك أوباما، يبدو هامش مناورة واشنطن محدودا مقابل تصميم روسي على انتزاع تنازلات أميركية تكرس دور موسكو القيادي ورؤيتها للحل. مهما كانت نتائج المماحكات والمناورات الدائرة ليس هناك من توقع لاختراق يمهد لوضع حد لمطحنة التدمير.
في خضم نزاعات الشرق الأوسط الملتهب، تتنوع المجابهات ضمن النزاع السوري وسرعان ما تذكرنا زحمة اللاعبين والمأزق المرتسم بمسرح اللامعقول (يترجم أيضا بـ’مسرح العبث’) وقد نشأ كتعبير عن مناخ تشاؤمي، بعد قنبلة هيروشيما وبدايات الحرب الباردة، يصل مع صموئيل بيكيت وأوجين يونسكو إلى أقصى حدود السخرية والتعبير عن الخواء الإنساني. ومن المصادفات أن تحمل إحدى المسرحيات عنوان “الكراسي” التي أطلق عليها مؤلفها يونسكو صفة “مهزلة فجائعية”، فكيف لو كان شاهدا اليوم على ما كلّفت في سوريا حرب تمسك النظام بكراسيه وحروب الأساطير والمصالح، وكأن هناك تلازما بين أكثر من طرف في تعهد مهمة تدمير البلاد، بشرا وحجرا وجيشا ومؤسسات، لتنفيذ أجندة تنهي سوريا التي عرفناها قبل 2011، وتترك الباب مفتوحا لإعادة تركيبها أو تقسيمها وفق سيناريوهات يرسم بعض الهواة خرائطها على الورق، بينما ترسم الحدود بالدم على الأرض.
أمام هول هذه الكارثة (إحصاء عدد القتلى يتراوح بين 300 ألف و600 ألف شخص) وهذه التغريبة (حوالي عشرة ملايين نازح ولاجئ ومهجّر)، يتلهّف أصحاب الأرض وأولياء الدم والمنكوبون والمتابعون على التقاط بصيص أمل، ويكتب عليهم أن يلاحقوا أخبار سيرجي لافروف وجون كيري اللذين اجتمعا العشرات من المرات منذ 2012 حول سوريا بالذات بالرغم من مناخ جليدي يهيمن على علاقات البلدين. وما قبل قمة العشرين في الصين، الأسبوع الماضي، وما بعدها نشهد على حلقة جديدة من مسلسل كيري-لافروف وهي حلقة غير مشوقة وفيها الكثير من البلادة والغطرسة: يجتمعان أو لا يجتمعان، بوتين يتفاءل وأوباما لا يريد ربط اتفاق سيفشل باسمه، وكأن التاريخ لن يكتب عن التخلي الدولي عن المدنيين وعن فشل كبار العالم في معالجة النزاع السوري، ويتصدر ذلك الفشل المعنوي والسياسي لحامل جائزة نوبل للسلام أوباما.
قبل اجتماع الجمعة التاسع من سبتمبر في جنيف بين لافروف وكيري، تكاثر التناقض في الأخبار وكانت واشنطن تريد أن توحي بأنها تضغط لتحسين الشروط عبر تصريح للبيت الأبيض عن إمكانية نفاد الصبر على موسكو (كلام إنشائي مع الاقتراب من مرحلة البطة العرجاء ولعدم وجود ‘خطة باء’ في الأدراج) أو عبر اتهام وزير الدفاع لموسكو بتأجيج الصراع في سوريا وعدم التعاون معها قبل وقف القتال (الأرجح وجود مقاربات مختلفة بين المؤسسات الأميركية).
وللتأكيد على جدية البنتاغون في الحرب ضد ما يسمّى الإرهاب نفذت المقاتلات الأميركية ليلة اجتماع جنيف ضربة ضد قيادات جبهة فتح الشام وجيش الفتح في رسالة تغمز من قناة الجانب الروسي الذي يركز على حماية النظام حسب آشتون كارتر (لاحظنا سابقا مسارعة الروس في تبني تصفية العدناني قيادي داعش بعد إعلان واشنطن استهدافه). وفي هكذا مناخات لا تسودها الثقة بل تكفل إدارة النزيف السوري، سرّبت “واشنطن بوست” أن البيت الأبيض قدم آخر اقتراح للروس حول الاتفاق المنتظر بشأن الأزمة السورية.
ويقضي الاقتراح بـ”إعلان هدنة في كل البلاد، بما في ذلك مدينة حلب المحاصرة وإيصال آمن ودائم للمساعدات الإنسانية، ووقف غارات الطيران السوري، وإطلاق عملية جوية روسية أميركية مشتركة ضد المواقع الإرهابية”.
يتصل التعثر في التوصل للاتفاق بخلل لصالح موسكو التي تتمتع بأفضلية تفاوضية على واشنطن نظرا إلى انخراطها على الأرض وتحالفاتها وإعادة حصار حلب. ولذا ربما لن يتعدى الأمر إنجاز هدنة خلال عيد الأضحى المبارك بانتظار معرفة مدى تأثير عملية “درع الفرات” على مجمل الوضع السوري.
بغض النظر عن مآل اجتماع جنيف، لا تتوفر شروط صفقة متوازنة بين الطرفين مع استبعاد قبول واشنطن بترتيبات غير قادرة على تسويقها، كما لاحظنا من خلال مراقبة اجتماع لندن الأخير، حيث أبدت النواة الصلبة لأصدقاء الشعب السوري (بريطانيا وفرنسا وتركيا والمملكة العربية السعودية) تأفّفها وتبنّت رؤية المعارضة للحل السياسي الانتقالي.
وفي ظل المراوحة والاستعصاء والتردد، يكمن الجديد في التدخل التركي الذي أخذ يخلط الأوراق ويضرب الستاتيكو القاتل، إذ أن إمكانية استخدام الوجود التركي في شمال سوريا كرافعة لتصحيح التوازنات بدعم أميركي وأطلسي، قد تسمح بخلق وقائع تربك المحور الروسي-الإيراني. وفي هذا السياق من اللافت إعلان وحدات الحماية الكردية عن تحضيرها لإعلان نظام فيدرالي في شمال سوريا خلال شهر أكتوبر القادم مع اتخاذ القامشلي عاصمة له، على أن يشمل عفرين ومنبج اللتين تشملهما أيضا خطط تركيا ومن معها من الجيش السوري الحر.
ويدل هذا التنازع في الشمال وتجميد جبهة الجنوب وتحريك جبهة الوسط في سهل حماة على عدم قدرة المايسترو الأميركي والعراب الروسي واللاعبين الإقليميين، على التحكم بكل خيوط اللعبة وعلى عدم نفاد وظيفة النزاع السوري الجيوسياسية في تحطيم الدول العربية المركزية وربما إعادة تركيب كل الإقليم.
↧