راجح الخوري: الشرق الأوسط
عشية قمة العشرين الكبار في هانغتشو بالصين، سيطرت موجة من التفاؤل بإمكان التوصل إلى وقف للنار في سوريا يسمح بالعودة إلى محادثات جنيف، ويبدو أن الاتفاق على برنامج المحادثات المباشرة بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين على هامش القمة، خصوصًا حول الأزمة السورية، شجع جون كيري وسيرغي لافروف على دعوة ستيفان دي ميستورا إلى بدء التحضير لجولة جديدة من التفاوض، ولم يتوانَ المبعوث الدولي عن إعلان ذلك.
في أقل من 48 ساعة انهار كل هذا مثلَ وهم أو غمامة عابرة، فلا المحادثات المباشرة بين أوباما وبوتين حققت أي تقدم أو تفاهم يمكن أن يبنى عليه، ولا الحديث عن جولة محادثات جديدة بين كيري ولافروف يمكن أن يحقق شيئًا، وقد يكون من الضروري أن نتذكر أن اجتماعهما الماراثوني السابق لمدة تسع ساعات انتهى كما بدأ صفرًا إلى اليسار، كما يُقال.
قبل أن يجلس بوتين في مواجهة أوباما كان قد أرسل قاذفاته ليمطر محيط معبر الكاستيلو في حلب بأكثر من مائتي غارة أعادت الحصار على مناطق المعارضة، ولهذا لم يكن غريبًا أن يفهم الأميركيون أن موسكو تحاول أن تضع عناصر القوة على الطاولة مع وصول أوباما إلى الصين، وهكذا إذا كانت المحادثات بينهما هناك قد فشلت، فقد جاءت تصريحات وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر يوم الأربعاء الماضي لتوحي بأن واشنطن تضع موسكو أمام خيار من اثنين:
أولاً: إما الاستجابة للخطة التي عرضها السفير مايكل راتني في رسالته إلى المعارضة والمتصلة بشروط وقف النار وفتح معبر الكاستيلو إلى مسافات حُددت بالأمتار (500 متر جنوبًا و3500 متر شمالاً)، مع تشديد على سحب النظام أسلحته الثقيلة والمتوسطة إلى مسافات محددة، بما ينهي فعاليتها لإقفال المعبر.
ثانيًا: وإما الانسحاب من عملية التفاوض، لأنه لا أمل في التوصل إلى اتفاق مع روسيا، ذلك أن دبلوماسيين أميركيين يحاولون إقناع روسيا باتخاذ خطوات نحو اتفاق حقيقي لوقف إطلاق النار ودفع النظام في اتجاه التحوّل السياسي، لكن الأنباء الواردة من سوريا ليست مشجعة.
وإذا كان بوتين تعمّد التصعيد في حلب قبل ساعات من لقائه أوباما في عملية ضرب في الخواصر، فقد جاء الرد الأميركي ضربات متتالية في الخواصر، أولاً عبر التهديد بالانسحاب من المحادثات، وثانيًا عندما اضطر لافروف في اليوم الثاني أن يحتجّ لدى كيري على سلة جديدة من العقوبات التي اتخذتها واشنطن ضد موسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية، وثالثًا، وهو الأهم والأكثر دلالة، عندما أنهى كارتر تصريحه يوم الأربعاء كمن يصفق الباب في وجه موسكو عندما قال: «الخيار لروسيا والعواقب هي التي ستتحمل مسؤوليتها»!
الحديث عن العواقب ليس كلامًا سياسيًا عابرًا، والدليل أنه عندما لوّح الأميركيون بالانسحاب من المفاوضات مباشرة بعد لقاء أوباما وبوتين، سارعت وزارة الخارجية الروسية إلى إصدار بيان يقول: «لا داعي لمثل هذه التصريحات الدرامية»، ولكي نستشف مدى الإحساس الدرامي المتصاعد في موسكو، يجب أن نقرأ تصريح أوباما بعد اللقاء مع بوتين الذي قال إن «المحادثات كانت صريحة لكن الفجوة مستمرة، ولم نتمكن من التغلب على الخلافات»، هذا في حين بدا بوتين وكأنه يحلم أو يتمنى التوصل إلى اتفاق عندما قال: «عندي أسباب تدفعني إلى الاعتقاد أن روسيا والولايات المتحدة قد تتوصلان إلى اتفاق بشأن سوريا خلال أيام»!
ولكن من أين يأتي بهذه الأسباب؟ عندما يتخذ أوباما مزيدًا من العقوبات ستزيد من نسبة الأزمة الاقتصادية المتصاعدة في روسيا، وعندما يصفق الباب في وجه بوتين قائلاً: «الخيار لكم في سوريا فتحملوا المسؤولية»، وهو ما يذكّر بكل التحليلات التي طالما فسرت تغاضي أوباما عن استئساد بوتين بأنه يهدف إلى تركه ينزلق إلى حرب استنزاف بدأ الآن يحسّ بوطأتها، وهو ما يذكّر بقول لينين ذات يوم: «أعطِ الأميركيين ما يكفي من الحبال وهم كفيلون بشنق أنفسهم في آسيا»، فهل أعطى أوباما بوتين ما يكفي من الحبال ليشنق نفسه في سوريا؟
يدرك بوتين أن ما أخذه من أوباما في أوكرانيا وسوريا لن يستطيع أخذه غدًا من هيلاري كلينتون ولا من دونالد ترامب، لهذا يستعجل حصول اتفاق اللحظة الأخيرة مع أوباما الذي سيتمادى الآن في التعامي والابتعاد عن ذلك، على خلفية أنه لا يريد أن يترك لخلَفه اتفاقات ملزمة قبل شهرين من الانتخابات الرئاسية.
ويعلم أوباما كما يعلم بوتين جيدًا أن العملية الروسية في سوريا بدأت في سبتمبر (أيلول) الماضي على أساس أنها مهمة محددة لأربعة أشهر، كما أعلن بوتين في حينه، ولكن ها هو يكمل السنة غارقًا في أزمة اقتصادية متصاعدة، وفي قتال المعارضة السورية في معابر مدينة حلب التي صارت ستالينغراد العصر، وأن كل ما فعله هو منع سقوط اللاذقية.
ويعلم أيضًا أن ما أنجزه الأميركيون ضد «داعش» وبالتعاون مع الأكراد من كوباني إلى الحسكة مرورًا بمنبج لم يتمكن هو أن يفعل شيئًا منه سوى قصف المعارضة التي ستبقى جزءًا أساسيًا من مستقبل سوريا، لمصلحة بشار الأسد الذي لن يكون ولا يستطيع هو في النهاية أن يفرضه جزءًا من هذا المستقبل.
ويعلم بوتين بكثير من المرارة ما يعلمه أوباما بكثير من الخبث؛ أن الآتي أعقد من الذي مضى، فماذا سيفعل مثلاً إذا دخل الأميركيون غدًا بالتعاون مع الأتراك إلى الرقة، وإذا شاركوا في تحرير الموصل في العراق؟ وماذا سيقول للروس: ننزف اقتصاديًا في حرب هدفها دعم النظام السوري بحجة قتال «داعش» الذي تركنا قتاله للأميركيين؟
ثم ماذا سيقول بوتين للأكراد الذين لوّح لهم بالفيدرالية في شمال سوريا، هل يتركهم هدفًا للدبابات التركية، كما فعل الأميركيون الذين دعموهم بالطيران في منبج والحسكة ثم قصفوهم بالطيران في جرابلس؟
وعندما يعمل رجب طيب إردوغان على إقامة «منطقة آمنة» في شمال سوريا، ويدفع بعضًا من المنظمات المعارضة إلى إرسال إشارات عن السعي لتحويل هذه المنطقة إلى نوع من «كانتون سني» لمواجهة أي فيدرالية كردية، ماذا سيفعل بوتين الذي بدأ ينتقد التوغل التركي الذي بدأ يثير أيضًا الحمى في طهران، التي صحيح أنها تعادي طموحات الأكراد، لكنها لن تتردد في التحرك للحيلولة دون الهيمنة التركية في الشمال السوري؟
أوباما ذاهب إلى بيته، لكن بوتين ليس عالقًا في الكاستيلو فحسب، بل وسط شبكة من القوى والصراعات والحسابات الدموية المتقاطعة، وهو ينزف في الاقتصاد والمتاريس والهواجس المتصاعدة، على الأقل حتى مارس (آذار) المقبل بعد تشكيل الإدارة الأميركية الجديدة.
↧