ولدتُ وفي فمي ملعقة من الكوابيس. كان الكابوس الأكثر رعباً وتكراراً هو انحشاري بين مكعبات صخرية عملاقة لها رائحة الفلين. يومي الأولى في المدرسة، كان يوماً أسود! والشيء الوحيد الذي رسخ في عقلي هو أن الأولاد المشاغبين يتم سجنهم يومياً في ذلك المكان إلى أن يكبروا... تيقنت من ذلك حين رأيت أولاداً ضخام الجثة يقفون في الطابور. فكرتُ أنه عندما يعجز الوالدان عن إصلاح طفلهما – وفي حالتي كانت والدتي متوفاة ما يزيد الأمر سوءاً – فإنهما لا يجدان مناصاً من إرساله إلى المعتقل لإصلاح اعوجاجه، وأسفتُ لأنني لم أكن ولداً صالحاً ومطيعاً! في الصف الابتدائي الثالث، صرتُ مثل كريستوفر كولومبوس، واكتشفتُ بالمصادفة الاكتشاف الأهم على الإطلاق عن القارة المسماة "المدرسة": جاء أقارب لنا من مدينة بعيدة ومعهم أطفالهم بحقائبهم المدرسية، وبدلاً من أن يلعب الصبيان معي رأيتهم مشغولين بالمذاكرة. سألتهم ماذا يفعلون، فردوا بأنهم يذاكرون ويحلون واجباتهم المدرسية. استغربتُ وقلت لهم إن المذاكرة في البيت تعتبر غشاً! قال لي صبي يكبرني بعامين: "يا حمار إذا لم تذاكر في البيت فلن تتمكن أبداً من النجاح.. هيا ابتعد!". رغم أسلوبه الفظ، فإن قريبي هذا قد أسدى لي معروفاً، وفهمتُ لماذا أبدو أغبى تلميذ في الفصل. في الصف الابتدائي الرابع، تعلمتُ القراءة والكتابة. كان هذا حدثاً عجيباً، وما زلت أراه عجيباً حتى اليوم. لم تفلح جحافل المدرسين في تعليمي الأبجدية، كنت لا أفهم مطلقاً ماذا يقولون، وأصواتهم لا تصل إليّ. لكن في اللحظة التي أحببتُ فيها القراءة والكتابة، تسرب إليّ الفهم أخيراً. ولم تكن كتبي المدرسية هي السبب، لكن اللهفة المحرقة لقراءة مجلات الأطفال التي أعارتني إياها بنت الجيران! لله درها فقد جعلتني أتعلم القراءة وأتخلص من أُمّيتي. لقد فشلت وزارة التربية والتعليم في مهمتها معي، ونجحت فتاة عرجاء طيبة القلب جداً بأسلوبها اللطيف في إنقاذ مستقبلي.. المحبة أولاً، وبعد ذلك علمني ما تشاء. لقد كرهتُ التعليم النظامي، وقررت منذ فترة مبكرة أن أُلمّ بالمنهج إلماماً عابراً بما يكفي للنجاح.. وقد نجحتْ هذه الحيلة نجاحاً باهراً، وفوجئتُ بأن أترابي الذين يأخذون "الدراسة" بجدية قد يسقطون في الفشل.. ربما بسبب التوتر أو ضغط الأهل المبالغ فيه. ثمة ترهات ومستحاثات في المناهج لا تليق بالعقل البشري، ومن العجب أنني فهمتُ ما يحدث، وجاءني حدس – تبينت لي صحته في ما بعد- أن هذا ليس تعليماً، لكنه مجرد "نسيج مهترئ" ينبغي تسليمه في نهاية العام في أفضل "حُلّة" ممكنة. مكتبة والدي هي التي أنقذت روحي من التلف والتليّف. قرأتُ كتب التاريخ بشغف، طالعتُ بعينين مندهشتين كتباً علمية مبسطة بألوان زاهية، اغترفتُ المتع من سير سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد والأنبياء وغيرها من الكتب الحقيقية "كاملة الدسم" التي جعلتني بشراً سوياً. لو لم أقرأ هذه الكتب العظيمة لما تمكنتُ من كتابة قصتي الأولى، وعمري ثلاثة عشر عاماً، ولما توصلتُ إلى اتخاذ قراري الأهم في الحياة وهو أن أُكرّس نفسي للكتابة والأدب القصصي. ومع كل كتاب انتهي من قراءته كنت ازداد يقيناً بأن مصيري متعلق بالمكتبة وليس بالمدرسة. "المدرسة" تنتج إنساناً مُعلباً تنتهي صلاحيته بتسلّمه شهادة تخرجه، وأما "المكتبة" فتنتج إنساناً أكثر حساسية للأخلاق والجمال، إنه كشجرة محملة بالثمار المفيدة التي تجدد باستمرار. أهداني والدي عند نجاحي في الصف الابتدائي السادس، هدية غير متوقعة: آلة كاتبة مع ورق أبيض ناصع البياض لا تتخلله تلك الخطوط اللعينة. لا أعرف لماذا وقع اختيار والدي على "الآلة الكاتبة" كهدية نجاح، لم أوجه له أبداً هذا السؤال، لكنني أحسست أنها هدية تحمل ضمنياً أمنية ما لا يجوز الإفصاح عنها علناً. قبل دخولي المدرسة كانت لدي قائمة تحتوي ما بين 12-15 بنتاً في مثل سني أُكنُّ لهن مشاعر متساوية من "الحب"! وهن تقريباً جميع البنات اللواتي أعرفهن، وكنت يومياً أحصيهن في عقلي لأتأكد من أنني لم أنس أي واحدة منهن. ثم في سن الثامنة تقريباً اكتشفت شيئاً مروعاً.. وهو أن المجتمع لديه معايير محددة تجاه هذه المسألة، وأنه ليس مقبولاً أن أُحب 15 فتاة دفعة واحدة! بالتدريج وبمرور الأعوام كانت القائمة تقصر، وأعدادهن تتدنى: ثمة من تزوجت، أو غيّرت مكان إقامتها، وثمة من اختفت وانقطعتْ أخبارها. وفي وقت ما، أبحرتْ تلك القائمة الطريفة في بحار النسيان، وغرقتُ رويداً رويداً في مشاغلي الخاصة حتى الأسنان. الحياة في هذا العصر لا تعطي الكائن البشري الوقت الكافي للحب.. والأوقات المناسبة للحب هي في سنوات الطفولة الأولى قبل دخول المدرسة، لأن الطفل بمجرد دخوله المدرسة يصبح مشغولاً بالمذاكرة وحل الواجبات المنزلية والحضور في الصف. وكذلك الشاب يصير مشغولاً بعمله الذي يكدح فيه من أجل تأمين مستقبله. وتأتي الفرصة الأخيرة للكائن البشري ليعمل على موضوع "الحب" حين يصير كياناً متداعياً، شيخاً هرماً ويعاني من آلزهايمر! آنذاك سيُصمم ذاك الشيخ الفاني قائمته الخاصة السرية المشجرة بحبيباته، وبسبب تدهور ذاكرته سيظل كل يوم يعيد تشييد تلك القائمة من جديد إلى أن يلفظ آخر أنفاسه!
المصدر: المدن - وجدي الاهدل
↧