إن كنت في الانتحار وإنهاء ألمك وأوجاعك فهذا يعني أنّك بلغت نفقا مسدودا من كل الجهات. وأن رغبتك في الموت والتبخر في الهواء رغبة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
والمنتحرون الذين تركوا تجاربهم خلفهم خير دليل على ذلك. لكن للأسف في الغالب الصرخة الأخيرة للمنتحر وهو يستنجد بمن حوله تؤخذ بعين السخرية، وبدل دفع اليائس من الحياة لطريق تبعده عن تنفيذ فكرته، نقوم بالضغط عليه ليسرّع في تنفيذ الإعدام بحق نفسه.
سليفيا بلاث تظل النموذج الأقوى لما أتحدث عنه اليوم، هي التي عاشت في ظلال زوجها ومبالغة أصدقائه ومحيطه في التقليل من تجربتها الشعرية والأدبية حتى أنهت حياتها. وإن كانت نظريات تفسير إقدامها على الانتحار متعددة، ولكنها جميعها تصبُّ في فقدان سليفيا الصغيرة للعاطفة التي كانت بحاجة إليها، كان يلزمها قليل من الاهتمام والمحبة لتقف على قدميها وتثق في نفسها وتمضي في حياتها، ولكنها منذ طفولتها الباكرة لم يهتم محيطها بحساسيتها المفرطة وقلبها الهش. شارك الجميع في زرع الاكتئاب القاسي في داخلها، وقد تمكن من أكل قلبها الأخضر وكل رغباتها للحياة، ولهذا لم تستطع أن تتخطى عمر الثلاثين بسلام، أتعبتها تلك القوقعة الجسدية بشكل غير محتمل، فانتحرت بوضع رأسها في فرن مطبخها وتنشقت الغاز المنبعث منه حتى الموت.
سارة كاين أيضا أنهت حياتها بطريقة درامية، ولعلها هي الأخرى عانت من التهميش في مجال عملها المسرحي والفني، والغريب أنها بعد موتها نالت الكثير من الاهتمام تماما مثل بلاث. وهذا يعني أن المعاناة مع الذات وما يحيط بها تتشابه عند المجتمعات، والذهاب نحو الموت طوعا نهاية مأساوية لكل إنسان يملك تلك التركيبة الجميلة من المشاعر، التي نعمل على تدميرها بسلوكات مختلفة وردات فعل شريرة.
المختلف في عالم الأدب العربي أننا نفسر الانتحار بتأثيرات قضايا كبيرة، وباحتجاجات ضد الخيبات السياسية والهزائم العربية، ونرفض أن نعترف بمشاركتنا المباشرة وغير المباشرة لتدمير شعلة منيرة في عالمنا. ولو أننا فتحنا تحقيقات جديدة في الأسباب التي دفعت بكل هؤلاء المنتحرين إلى الموت سنكتشف أن الأسباب أبسط من تلك العناوين الكبيرة التي طرّزت بها الصحافة العربية أخبار موتهم. هناك مجتمعات لا تستحق أن يولد فيها شاعر أو فنان أو عالم. هناك مجتمعات لا تستحق أن يولد فيها الأبطال، لأنها مجتمعات تأكل أبناءها بطريقة أو بأخرى. وستجد المبرر سريعا لتحوّل رمادهم إلى طين والطين إلى تماثيل وهمية لتمجيد معاناتهم.
الذين لا يتكررون فعلا هم أولئك الذين يخرجون عراة الصدور أمام الفساد من دون خوف، مثل تشي غيفارا الذي قال لحبيبته: « لا تعشقي يساريا سينساك ويفكر في العمال الكادحين، سيحدثك في الليالي الرومانسية عن الأرض والخبز والسلام»
أمّا الذين ماتوا بكواتم صمت بأيدينا فمن الصعب أن نصنع منهم رموزا لأجيالنا.
هل هناك من يعرف الشاعرة الجزائرية صفية كتو؟ أو اللبناني خليل حاوي؟ أو تيسير سبول الأردني؟ وغيرهم. من يعرف معاناتهم وهم يغرقون في بحيرات مظلمة من الحزن والوحدة؟ من يعرف السر الحقيقي الذي أودى بكل شاعر منهم إلى إعدام ذاته؟ لعلّنا نخجل أن نكتب تاريخنا الحقيقي كمثقفين وكتاب وشعراء و«نخبة» من المفروض أن يُعتمد عليها في القضايا الإنسانية ومعالجة المجتمع، فهربنا إلى الشماعات العالية التي لا يمكن للقارئ العادي أن يطالها.
هل قتل خليل حاوي نفسه بسبب الاجتياح؟
أطرح السؤال ولا أجيب، لأن الرجل حين غادر عالمنا اكتفينا بالتأريخ لحادثة انتحاره تحت عنوان الاجتياح. واكتفينا بهذا القدر حتى لا نغوص في أخطائنا. من حمل كاميرته وذهب إلى منشئه وحقق في الأمر، من طرح الأسئلة الحقيقية عن بدء كآبته العميقة واستيلاء حزنه عليه حتى لم يعد قادرا على رؤية نور الحياة؟
ثارت النسويات عند انتحار بلاث، واعتذر النقاد على تهميشهم لأدبها، وبحثت الأجيال الجديدة عن النواة المنسية في نصوصها فزرعوها من جديد حتى أثمرت، لكن من يسمع بصفية كتو غير نخبة جزائرية مفككة، ومنشطرة بين من يحاكم انتحارها من منطلق ديني، وبين من يشكك في هويتها الأدبية ومنابع لغتها الفرنسية ومعاناتها في مجتمع لم يعرف هويته جيدا، وبين آخرين أرادوا إنصافها لكن شيئا غير مفهوم يقف حاجزا شاهقا أمام رغبتهم؟
عثرت على اسم صفية كتو في كتاب للإعلامية والشاعرة اللبنانية جمانة حداد، وقد شعرت بأنها قدمتها بشكل صادم يثير مزيدا من النقمة عليها أمام القارئ العربي المتأسلم الذي لا يحب أي إشارة غاضبة للدين. وهذا يعني أيضا أن كتو الراحلة منذ سبعة وعشرين سنة لم ينصفها أحد بعد إلاّ قلة جدا من أبناء بلدها الذين يناضلون من أجل الحريات والمساواة بين الجنسين في الحقوق الإنسانية.
الكتاب الذي استفزني في محطّات كثيرة، قدّم الانتحار وكأنه لوحة شعرية جميلة. فيما الانتحار فعل أناني يعاقب به المنتحر كل الذين شاركوا في تدميره. وتشهد على ذلك رسائلهم التي تركوها خلفهم. وغالبا يكون التخلي أو الخوف من التخلي سببا رئيسا لجعل الشخص ينهي حياته. أما المراحل السابقة لهذا الشعور المخيف بالتخلي والغرق في مآسي الذات، فإنه يحاك ببطء على مدى سنوات.
الأطفال المنتحرون يكونون عرضة للخوف من أهلهم بسبب غلطة أو عرضة للتهكم من طرف أصدقائهم. المفلسون يكونون عرضة للتهكم من طبقتهم الثرية، الفقراء يلاحقهم عار ما في الغالب لا يكون أكثر من إشاعة أو ملاحقة بسبب فشل ما.
الأطفال بفورات عاطفية غير متزنة يختلفون عن الناضجين الذين يطلقون الرصاص على رؤوسهم أو يبتلعون حفنة من المنومات أو يعلقون أنفسهم في مشنقة. النّاضج بلغ به غضبه درجة الانتقام من كل من حوله، ولكنه أيضا يجد الحل الوحيد في خلاصه إلى شطب نفسه من الحياة. في كل الحالات يفسر الانتحار على أنه حل أناني للهرب نهائيا من المواجهة، ولكنه أيضا قمة الإيمان بالحياة الأخرى واستخفاف بتفاهة الحياة الحالية التي نعيشها قبل الموت.
في الأدب، ترك الشعراء والكتاب دلائل على يأسهم، لكننا في الغالب كقراء لا نصدق ذلك الصدق الذي تنبض به نصوص كالتي جاءت على لسان أبطال رواية «آلام الشاب فرثر» ليوهان فوفلغانغ فون غوته على أن الجسد في لحظة ما يصبح سجنا يجب الفرار منه. وقد تساءلت بيني وبين نفسي لو أن غوته لم يقتل نفسه في روايته وهو يسرد قصة حبه العويصة لشارلوت التي لا حلّ لها هل كان سينتحر؟
ويبدو حسب تفسيري الخاص أن غوته أكثر كاتب قدّم أجوبة عن الانتحار وأنه عالج نفسه بكتابة رواية حققت نجاحا كبيرا ومنحته الدعم العاطفي الذي تمناه ولم يجده في الواقع. ترى هل ينقذنا الأدب من محاكمة الذات بقسوة وإعدامها؟
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
المصدر: القدس العربي