في لحظة وصولنا إلى مطار روما، داهمنا مشهد صفوف آلاف الواصلين من جهات الأرض، خصوصاً العائلات الأميركية بألبستهم السياحية: الشورت البيج، القبعات، حقائب الظهر، أحذية السنيكرز والاسبدرين.. بدا خليط المسافرين ومظهرهم وكأن الناس بكل جنسياتهم لا يفعلون شيئاً سوى التمتع بالسفر، بل وكأن ركوب الطائرات والتجول حول العالم يتم بخفة وسهولة تامتين. كنا ننظر إلى هذه الحشود المرحة وننصت إلى ثرثراتها المبهجة، وكأن الجميع في "رحلة مدرسية". ما من رهبة انتظار رجال الأمن والجمارك. ما من تخوف أو ريبة كمثل التي نشعرها في مطار عربي، حيث نظرات الحذر والأجساد المغلفة بالقلق، والعيون المتوجسة من مفاجآت غير سارة. هنا، في مطار روما رأينا تلك اللطافة التلقائية، تلك السلاسة في اجتماع الناس وتفرقهم، في إنجاز معاملاتهم، في تدبير وصولهم وخروجهم. كانت روما بعيدة من مطارها، ورحنا حسب الإرشادات التي أرسلها مضيفونا بالإيميل، نمشي جارّين حقائبنا مئات الأمتار باتجاه محطة القطارات القريبة، مثلنا مثل نهر البشر المتدفق ذهاباً وإياباً، مسرعين في إيقاع واحد، انضطبنا فيه من فور اندماجنا بينهم. في انتظار انطلاق القطار نحو روما، بدأنا هكذا نتصرف وفق شعورنا أننا في أوروبا، أن نستمتع بالشمس الربيعية، مسترخين على كراسي المقهى، نحتسي الاسبرسو الإيطالية، كما لو أنها أطيب قهوة تذوقناها في حياتنا. كان شعوراً مبالغاً فيه، لكنه منحنا ذاك الرضى العميق بأننا "سياح" وبأننا فزنا بوقت للدعة والمتعة. وربما لهذا السبب، صرنا نرى كل شيء مدهشاً: الأكشاك الصغيرة المتخمة بالسندويشات الكبيرة الجاهزة، بماكينة العصير الأوتوماتيكية التي ما أن تضع فيها قطعة اليورو المعدنية حتى تعصر لك كوب عصير طازج، بلباس الشرطة الفولكلوري، بطيور الحمام المنتشرة على الأرصفة، بأصوات القطارات وقاطراتها الكثيرة.. كنا نرى معنى هذه الحياة العصرية اللاهثة والمنظّمة، ومعنى هذا التدفق اللانهائي للبشر، كل في مسعاه وغرضه من غير عوائق أو فوضى. كنا نرى معنى العمران والمنشآت التي "تخدم" راحة الناس وتسهِّل حركتهم، من غير إهمال تلك الحاجة للجمال، لمنح النظر متعته. سأنسى دهشة المطار ومحطة القطار، لحظة دخولي إلى روما. كدت أبكي لشدة هذا الجمال السينمائي، لتفوق حقيقة ما أراه على أفضل ما تخيلته. آه من هذا التآلف الخرافي بين الحجر والصنوبر والسماء الزرقاء. آه من هذا الربيع الإسطوري باعتداله ولطافته وعطره، مثالي أكثر من أي وصف. كالأبله، أحدق بالدكاكين التي تبدو كاللوحات التشكيلية، بالشرفات المشغولة بالأصص والحواف التزيينية الصغيرة ودرابزيناتها الحديدية المنقوشة كالدانتيل. أحدق بالسطوح الناعسة، بالساحات الأثرية، بالعابرين المتفننين كل لوحده بأناقته الشخصية.. بالفتيات راكبات "الفيسبا"، كما لو أنني داخل فيلم لـ فيلليني . ثم كل هذا النحت أينما وجهت نظري. نحت لكل شيء، ومنحوتات في كل مكان. العمارات نفسها هي هندسة نحتية. زوايا الطرق، في قلب الساحات، أعلى مداخل البيوت، على جوانب الطريق.. نحت مبذول منذ آلاف السنين، متراكم عبر العصور. روما مصنوعة من إزميل أبدي. أظن أن الصخور والأحجار، تبقى كذلك هي نفسها في كل مكان من العالم، إلا هنا في إيطاليا. ففي هذا البلد تكتسب الصخور والأحجار روحاً، تتحول إلى "كائنات". صرت أتخيل أن الإيطاليين يقضون حياتهم جميعاً مهووسين في نفخ الحياة في كل حجر، يحولون كل صخرة إلى شكل، يمنحونها جسماً وكينونة. ليس الانبهار بالفن وحده، ليس فقط هذا الإعجاز بجعل الفن في صلب الحياة اليومية ومظهرها الأبرز، بل أيضاً هذا العيش "الخارجي" للناس، هذا الإقبال على الهواء الطلق، هذا الانفتاح على الشارع، وكأن لا فاصل بين دواخل البيوت والفضاء العام. أقصد تلك العفوية "الشعبية" في سلوك الناس ولباسهم وحركتهم وكلامهم وتمتعهم بالشمس والرصيف والساحات التي لا عد لها، والمقاهي والمطاعم وأفران البيتزا وأكشاك البوظة، ودكاكين اللحوم المجففة والمقاعد العامة المنثورة هنا وهناك، والكراسي الخشبية الصغيرة التي يقتعدها كبار السن عند الزوايا، ولهو الأطفال في الشوارع، وجلوس الأمهات على الشرفات حيث الغسيل المنشور، وتسكع المراهقين والمراهقات بأثوابهم الخفيفة، وملايين السياح الشاردين مثلي كبلهاء يتفرجون على ما قد نسميه "سحر المتوسط الخفي" (الذي فقدناه في أزمنة "الممانعة" والعروبة النضالية). تلك المتوسطية في الأطعمة أيضاً، في الزيتون وزيته، في الأجبان، في الزعتر والبندورة والحبق والباذنجان، في رائحة أفران البيتزا، وفي صحون السردين المقلي، في طزاجة كل الخضر والفاكهة واللحوم والأسماك.. طزاجة الأرض والسماء ونضارتهما. المتوسطية نشعرها في الشمس التي تكسرها النسائم الباردة، وندركها خصوصاً في أشجار الصنوبر المنتشرة في رحاب المدينة كلها، مع عطرها النفّاذ، مع هوائها الأوكسجيني النقي. وأقصد أيضاً المتوسطية في استخدام أهل روما لأجسامهم وأياديهم أثناء الكلام والتحادث، في صخبهم اللاهي من غير تحفظ. وهي كذلك، في عادة سكان كل حيّ تناول العشاء في ساحتهم، كما لو أن المطعم الصغير هو مطبخهم المشترك. واللغة أيضاً سحر إضافي، كلام يشبه الغناء، فالكلمات تخرج متتابعة كلحن لا ينتهي، مفعم بأحرف العلّة الكثيرة والمتكررة. لغة سخية بأحرفها الصوتية العالية، وإن لم تفهمها، تظل هكذا مستمتعاً بالإصغاء لهذا "التغريد" البشري. وتروح تقول في دخيلتك Bella أو Buongiorno كما يلفظها أهل روما كمغنّي الأوبرا. هذا ما أشعرني بإلفة غامضة مصدرها "المشترك" المتوسطي، رواسبه الخفية في روحي، أو بقاياه اللبنانية المتضائلة، وذاكرة العيش البهيج، وحكاياته الموروثة من أزمان ما قبل 1975. ما أحببته في روما، وجعلني أفضّلها على كل المدن التي زرتها، أن واحدنا في باريس مثلاً يشعر دوماً أنه في امتحان الجدارة والوقار والرصانة والثقافة والرفعة والتهذيب. يشعر واحدنا أنه أمام أبهة متعالية تطلب منك التقدير الدائم. أما روما فهي تحيي فينا تلك السجية المتوسطية، حب الطعام والشراب والإقبال على الملذات الحسية، وعلى الاستسلام لكرنفال الفضاء العام وصخبه وعفويته وشعبيته، لكن أيضاً محاطين بفضائل "التنظيم الأوروبي" وعراقة الإتيكيت الاجتماعي. أذكر، عند تجوالي داخل مبنى البلدية القديم جداً، أني رأيت في القاعة الرئيسية تماثيل رأسية تعود إلى العصور الرومانية، ولوحات بورتريه زيتية تمتد حتى بدايات عصر النهضة، تمثّل وجوه عمداء مدينة روما عبرها تاريخها المعروف. هي مدينة لم ينقطع فيها الزمن، خالدة على نحو خاص، بمعنى أن الأركيولوجيا فيها مسكونة، وليست آثاراً مهجورة. فحتى اليوم، شبكة المياه والنوافير و"السبل" في الشوارع والساحات مستمرة منذ العهد الروماني، وتُستعمل وفق وظيفتها الأصلية. يمكنك في روما أن ترى الناس يعبئون المياه لاستعمالهم المنزلي من "سبيل" الحيّ، من النافورة المزينة بوجه أسد عند الناصية. كما لو أن روما قرية كبيرة، وليست عاصمة دولة صناعية أوروبية. كنا في الساحة، ساعة الغروب، حين انتبهنا إلى تلك الفيللا عند التلة القريبة، والمحاطة بحديقة الصنوبر والسرو والياسمين، وتطل شرفاتها بطراز "الرينسانس" علينا، حيث احتشد المدعوون لعرس باذخ. قالت مضيفتنا "لننضم إليهم"، منطلقة بالمشي نحو الفيللا من غير انتظارنا ومن دون اكتراث لترددنا وحيرتنا واستغرابنا: كيف ندخل كغرباء إلى هكذا عرس؟! بخفة بالغة وجدنا أنفسنا هناك نحتسي النبيذ الأبيض، نشارك تلك العائلات بهجتها واحتفالها. هي الخفة نفسها التي يمكنك فيها "الدخول" إلى روما ومعاشرتها والتمتع بسخائها وطزاجة الحياة فيها.
المصدر: المدن - يوسف بزي
↧