حكومة المحاصصة التي جاءت بعد احتلال العراق، فرضت على النظام السياسي آلية توزيع المناصب وفق حصة كل مكون من مكونات الشعب العراقي، ووفق هذا التوزيع فإن الدولة تنقسم بين ما سُميت بالمكونات الرئيسية للمجتمع، فصار هناك كتلةٌ سنيةٌ، وكتلةٌ شيعية، وأخرى كردية. وتُوزع المناصب على هذا الأساس، لكن هناك بعض الثوابت في توزيعها، إذ لا يمكن تغييرُها بحسب عُرف ابتدعته الكتل السياسية نفسها، حيث تكون رئاسة الوزراء للكتلة الشيعية، ورئاسة الجمهورية للكتلة الكردية، ورئاسة البرلمان للكتلة السنية، وضمن هذه الثوابت تكون وزارة الدفاع للسنة، ووزارة الداخلية للشيعة.
في عام ٢٠٠٥، اختار مجلس الحوار الوطني -وهو يمثل الكتلة السنية- أول وزير دفاع مرشح عن السنة في حكومة إبراهيم الجعفري، ووقع الاختيار على سعدون الدليمي، وهو اسمٌ كان مرفوضًا وبشدة من قبل الكتلة الشيعية في ظاهر الأمر، ليس لأنه تخصصَ بالأمن ولم يخدم في الدفاع سابقًا، بل بسبب ما عُرف عن الدليمي من عداء للأحزاب الإسلامية الشيعية، وعمله السابق كخبير في تفتيت الجماعات الإسلامية المرتبطة بإيران، قبل أن يعلن انضمامه للمعارضة في لندن، ورغم ما ذُكر من اعتراضات لقيادات في الائتلاف الشيعي على تولي الدليمي حقيبة الدفاع، وعلى رأس تلك القيادات عبد العزيز الحكيم، وإبراهيم الجعفري، وحسين الشهرستاني، فإن تسريبات ذكرت أن الحكيم كان موافقًا على تولي سعدون الدليمي منصب وزير الدفاع، وأن إيران موافقة على ذلك، وتأكد هذا الأمر بعد فترة قصيرة من تولي الدليمي للمنصب، حيث أعلن بعد أيام من طهران عن اعتذاره لحكومة طهران عن الحرب التي خاضتها إيران مع العراق، لتظهر الصدمة جليّة على وجوه من منحوه الثقة.
استمر سعدون الدليمي لمدة عام على هرم الوزارة، وفي عام ٢٠٠٦ حصلت انتخابات تغيرت على إثرها الحكومة، وغيّرت معها أسماء الكتل بعد إخفاق تلك الكتل بمسمياتها السابقة من تحقيق الوعود التي وعدتها لناخبيها، فسُميت الكتلة السنيّة «جبهة التوافق»، والتي اختارت اللواء الركن الطيار عبد القادر العبيدي وزيرًا للدفاع في حكومة نوري المالكي من عام ٢٠٠٦ حتى ٢٠١٠.
العبيدي لم يكن أفضل من سابقه، بل ربما أسوأ بالنسبة للكتلة السنيّة، وفق المعطيات، إذ كان إلى جانب رئيس مجلس الوزراء في السراء والضراء، وأثيرت في عهده أولى فضائح صفقات الفساد المعلنة، وهي صفقة الأسلحة الأوكرانية التي أخذت حيزًا كبيرًا من الجدل وتبادل الاتهامات بين أعضاء في الحكومة والبرلمان.
رشّح عبد القادر العبيدي نفسه في الانتخابات البرلمانية عام ٢٠١٠ عن قائمة دولة القانون، التي يرأسها نوري المالكي أبرز خصوم الكتلة السنية، قبل أن تجتثه هيئة المساءلة والعدالة. بعد ذلك أثير لغط كثير على سفره المفاجئ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبين من وصفه بالهارب من قضايا فساد اتّهم بها، وبين معلل لسفره برحلة علاجية أُغلق ملف العبيدي، وانشغل الرأي العام بنتائج الانتخابات البرلمانية التي فازت بها الكتلة السنيّة متمثلةً بالقائمة العراقية، لكن الكتلة الشيعية تحالفت مع الكتلة الكردية وشكلت الحكومة، وبقي نوري المالكي في منصب رئيس مجلس الوزراء للدورة الثانية على التوالي.
اعتراض القائمة العراقية على تفسير المشرّع للنص الدستوري الخاص بالقائمة الفائزة أثار موجة خلافات بين السياسيين السنّة من جهة، والسياسيين الشيعة والأكراد من جهة أخرى، انتهت بفوز الطرف الأخير بتشكيل الحكومة، لتكون هناك جولة أخرى من الصراع، وهذه المرة على حصة كل قائمة في التشكيلة الوزارية، الأمر الذي مكّن المالكي من شغل منصب وزير الدفاع في ٢٠١٠- ٢٠١١.
الخلافات السياسية، ورفض الأسماء المقترحة من القائمة العراقية لمنصب وزير الدفاع، إضافة إلى التنازلات من بعض قيادات القائمة من تحت الطاولة، ولمكاسب شخصية وحزبية تم تنصيب سعدون الدليمي مرة أخرى وزيرًا للدفاع من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٤، الأمر الذي عدّته قيادات سنيّة مصادرة لحقوقهم في الحكومة، في حين عبرت قيادات شيعية عن استغرابها من الاعتراض على شخصية سنيّة سبق وأصرّ السنّة على ترشيحها، ورأت في الرفض محاولةً لتسييس الجيش العراقي.
حصلت في هذه الفترة تظاهرات عمت أرجاء العراق بسبب فشل الأداء الحكومي بدأت بساحة التحرير في ٢٥ شباط ٢٠١١، وانتهت بدخول تنظيم الدولة للمناطق التي شهدت تظاهرات واحتجاجات.
لم يكن دور الجيش إيجابيًّا ولا محايدًا في هذه التظاهرات، فقد سجلت انتهاكات كبيرة ومتنوعة ذهب ضحيتها عشرات المحتجين، وكانت مجزرة ساحة اعتصام الحويجة هي الأبرز.
وفي هذه الفترة شهد الجيش انكسارًا كبيرًا بعد أن تحرك باتجاه الأنبار لفضّ الاعتصامات بالقوة، لكنّ العشائر الأنبارية رفضت ذلك، وقاومت الجيش، وأطلقت عليه لقب (جيش أبو دشداشة) بسبب أسر الكثير من الجنود والمراتب وإرسالهم إلى أهاليهم بالزيّ العربي.
ثم انهار الجيش سريعًا بعد دخول تنظيم الدولة إلى مناطق الصراع، وسيطرته على عدة مناطق، وانسحابه المفاجئ، تاركًا خلفه أسلحته ومعداته.
كما وشهدت فترة تسنّم سعدون الدليمي الثانية وزارة الدفاع عدة صفقات فساد أثارت الرأي العام، تخص أسلحة مستوردة لحساب الوزارة.
في مطلع عام ٢٠١٤، شهد العراق انتخابات برلمانية نتجت عنها حكومة حيدر العبادي واختارت الكتلة السنيّة تحت مسمى جديد كالمعتاد اسمًا جديدًا لمنصب الدفاع، وهو المهندس الطيار خالد العبيدي.
لم يكن العبيدي الذي يشغل منصب وزير الدفاع منذ ٢٠١٤ حتى إقالته في آب الماضي، أفضل من الوزراء الذين سبق ووقع عليهم اختيار الكتلة السنيّة لمنصب وزير الدفاع، بالنسبة لهذه الكتلة على وجه الخصوص فقد شكل صدمة كبيرة اتهام وزير الدفاع لرئيس مجلس النواب سليم الجبوري، وعدد من نواب اتحاد القوى أثناء جلسة استجواب خالد العبيدي، خصوصًا أن الحدث شكل سابقة في الوسط السياسي، إذ لم يسبق لكتلة سياسية أن رشحت وزيرًا لمنصبٍ سيادي وانقلب على قيادات الكتلة بهذا الشكل الذي عرّض منصب رئيس البرلمان للخطر، خصوصًا أن الأخير رُفعت عنه الحصانة لغرض التحقيق والاستجواب.
ليس من باب المصادفة أن ينقلب مفتّت التنظيمات الشيعية المرتبطة بإيران إلى مدافع عن هذه التنظيمات وداعم لها، وليس هبوطًا اضطراريًّا ذاك الذي دعا طيارَين أقلعا من قاعدة الكتلة السنيّة، ليهبطا في قاعدة الكتلة الشيعية، إذ يبدو أن هناك ما لا يدعو للثقة داخل الوسط السياسي السنّي، ما يدفع أعضاءه للانشقاق والذهاب إلى معسكر الخصم، رغم اختلاف الأفكار والرؤى.
ولعل تغيير الأسماء والشخصيات المستمر في الانتخابات خيرُ دليل على عدم وجود بُعدٍ سياسي واضح لدى الخط الأول من السياسيين السنّة. لكن كل هذا ليس مسوغًا لانقلاب وزير الدفاع المتكرر على كتلته، وارتداد ذلك على التوازن في حكومة المحاصصة، ما يزعزع الثقة بين الكتلة السنيّة، وجمهورها بعد أن فقدت الكثير منه بحسب آخر نتائج انتخابية.
ويبقى السؤال المحير: هل مشكلة الكتلة السنيّة تكمن في البناء السياسي أم في اختيار الشخصيات أم في قوة خصومها وتوازنهم السياسي؟
المصدر: ساسة بوست
↧