عند أحد مداخل حلب القديمة، يجلس أبو نديم بثياب رثة على أحد الأرصفة يعزف على الناي ألحاناً حزينة تعكس صورة أسواق أثرية كانت تعج يوماً بالناس لتتحول إلى مكان شبه مهجور يعيش فيه القلة من السكان بين الركام وثقوب القذائف والرصاص.
ويشير تقرير لوكالة "فرانس برس" أن المدينة القديمة في حلب انقسمت في العام 2012 وإثر معارك عنيفة، بين أحياء واقعة تحت سيطرة الفصائل المعارضة وأخرى تحت سيطرة قوات النظام.
وخلال أربع سنوات من معارك جعلتها خط تماس بين الأطراف المتقاتلة، تحوّلت حلب القديمة الأثرية إلى ثكنة عسكرية كبيرة حتى بات الجنود هم زبائن من تبقى من خياطين وحلاقين وتجار في منطقة غادر غالبية سكانها.
في حارة بحسيتا الواقعة تحت سيطرة قوات النظام في المدينة القديمة، لا يزال الخياط زكريا موصلي (45 سنة) مواظباً على مهنته، إلا أن الزبائن هم الذين تغيّروا.
ويقول موصلي لوكالة «فرانس برس»، وهو يقص قماشاً عسكرياً، «أنا الخياط الوحيد في حلب القديمة». ويضيف: «كنت أعمل في السابق في صناعة القبعات الملوّنة للأطفال والنساء والشباب، أما اليوم فبت متخصصاً بصناعة القبعات العسكرية، كون المنطقة أصبحت برمّتها منطقة عمليات عسكرية وينتشر فيها الجنود».
ويتابع: «لدي زبائن أوفياء يأتون من داخل حلب، ولكن معظم زبائني حالياً من الجنود والضباط، وأصبحت ماهراً في صناعة القبعات العسكرية».
رفض زكريا وعائلته مغادرة منزلهم، وأصروا على البقاء على رغم الأخطار، ويؤكد زكريا: «هنا منزلي، وهنا عملي، وهنا كل ذكرياتي. لم أخرج على رغم خطورة المكان، ولست نادماً على قراري أبداً».
وفي غرفة مجاورة لمنزله، وضع زكريا بعض آلات الخياطة، يأتي بالقماش من الأحياء الغربية ويعود بها إلى حلب القديمة بعد اجتياز النقاط العسكرية ومناطق أخرى تتسم بالخطورة أكان بسبب القذائف أو بسبب رصاص القناصة.
وتُعد حلب واحدة من أقدم مدن العالم وتعود إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد. إلا أن المعارك التي شهدتها منذ العام 2012 دمّرت المدينة القديمة وأسواقها المدرجة على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي، بحسب الوكالة.
وبات الركام يغلق الكثير من حارات المدينة القديمة، وأخرى بدت معتمة بقناطرها الأثرية المتضررة. وأغلق بعض المحال في الحارات الضيقة بالأقفال في حين تحطمت أبواب محلات أخرى جراء المعارك. أما الجدران فامتلأت بثقوب الرصاص. ولحقت بسوق المدينة التاريخي تحديداً أضرار فادحة نتيجة المواجهات والحرائق، فيما تحولت مئذنة الجامع الأموي العائدة إلى القرن الحادي عشر إلى كومة من الركام.
وقرب القلعة الأثرية، بدا سوق خان الوزير الواقع تحت سيطرة قوات النظام مدمراً تماماً وخالياً سوى من مقاتل بلباس عسكري يحمل بيده طفلاً وخلفه امرأة يمشيان سوياً بين الحطام.
وفي منطقة باب الفرج عند مدخل المدينة القديمة، اتخذ الحلاق محمد زكريا (65 سنة) جزءاً بسيطاً من قهوة كبيرة تكسّر زجاجها بالكامل مكاناً لممارسة مهنته. ويقول: «كانت المنطقة سياحية بامتياز، زبائني جميعهم كانوا من السياح أو السوريين من المحافظات الأخرى، أما اليوم ومع تحولها إلى ثكنة عسكرية بات زبائني من الجنود والضباط». وطالما تعرضت المنطقة التي يتواجد فيها محمد زكريا للقصف إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة عمله الذي وصفه بـ «الجيد» بسبب الجنود.
وعلى مقربة من محل الحلاقة، يقف يحيى قطيش (57 سنة) أمام بسطة من الخضار والفاكهة اقتصرت على البندورة والباذنجان والفلفل والبطيخ، وبعض البيض. وجد قطيش في هذه البقعة مكاناً مناسباً لتجارته لجذب الزبائن من النازحين والعسكر على حد سواء.
ويقول، أثناء بيعه البيض لبعض الجنود، «هناك الكثير من النازحين الذين لجأوا إلى هذه المنطقة لأن أسعار الإيجارات متدنية جداً، كما يوجد فنادق فارغة تماماً اتخذوها مكاناً لهم».
وبالإضافة إلى النازحين، أصبح العسكر المنتشرون في خطوط التماس زبائن يحيى للتزود بحاجياتهم.
في حارة أخرى في السوق القديمة، يجلس المصوّر سركيس (66 سنة) على كرسي أبيض أمام محلّه الذي أعاد تنظيفه بعدما أصيب بأضرار نتيجة انفجار قذيفة بقارورة غاز. ويقول لـ «فرانس برس»: «كنتُ معتاداً على رؤية عشرات السياح يدخلون إلى محلي (&8230;) أما اليوم، لم يبقَ سوى الجنود والمقاتلين يتردّدون للاطمئنان عليّ وليس لالتقاط الصور».
لم يبق سركيس في المدينة القديمة حفاظاً على مصدر رزقه، بل لتعلّقه بمكان ولد وكبر فيه. ويروي: «هذه الأمتار الصغيرة من المحل هي مصدر حياة بالنسبة لي وليست مصدر رزق، لا أجني أموالاً أبداً من البقاء هنا».
يعيش سركيس مع زوجته في منزل مجاور، ويتردّد عليهما أبناؤهما الأربعة أسبوعياً لتزويدهما بالمال والحاجيات. ويقول: «ألحّ أبنائي كثيراً كي أخرج من المدينة القديمة، لكنّ ليس سهلاً أن أعتاد على مكان آخر. ولدتُ هنا، وأريد أن أموت هنا». يتمنى سركيس أن يأتيه زبون واحد يسأله عن بطارية للكاميرا مثلاً، وإن أتى «سأعطيه ما يريده مجاناً».
وكالة «فرانس برس»،
↧