(1)
بدأت القصّة باتصال هاتفي وردني من أحد الموظفين في عملي، يخبرني بورود كتاب من جهة أمنيّة يطلب منهم تبليغي بوجوب مراجعتهم، فلما استوضحت منه عن هذه الجهة؟ قال: "الفرع 227".
تلكّأت عدة أيام بالذهاب باستلام الكتاب حتى أحاول استيضاح الأمر، ومعرفة هذا سبب الاستدعاء الغريب.
طبعًا كان خيار تجاهل الكتاب وعدم تبلغه لعدم قانونيّة هذا التبليغ والاستدعاء مستبعدًا بسبب الوضع الأمني الضاغط وإمكانية قيامهم بالقبض عليّ مباشرة.
لجأت إلى أحد أصدقائي الذي تربطني به علاقة أخوية متينة وله علاقاته وصلاته الوطيدة مع العديد من الأشخاص النافذين في الدولة بحكم شغله في السابق منصبًا وزاريًا.
وفعلًا، أخبرته بموضوع الاستدعاء؛ فقال إنه سيحاول استيضاح الأمر. في اليوم الثاني، اتصل بي وأخبرني بأن الموضوع بسيط (بالرغم من أن صوفتي حمراء عندهم كما فهم) ويحتمل أن تتم مراجعة الفرع على مدى عدة أيام. ولمّح بأن الموضوع يتعلق بالكتابة على الفيسبوك.
لم أطمئن كثيراً لكلامه، وحسمت أمري على تبلغ الكتاب ومراجعة الفرع؛ لأن خيار التواري عن الأنظار سيتسبب بقلب حياتي وحياة أسرتي جذريًا بشكل ليس لدي استعداد له. وبسبب أني لم أرتكب أي فعل يجعلني أخشى من تبعاته. وبالنسبة لكتاباتي القديمة ومواقفي من الأزمة فأنا مستعد لمناقشتها وتبريرها، لكونها متوافقة مع القانون ولا تخالفه.
في منتصف تشرين الثاني عام 2014، كان يوماً خريفيًا مشمسًا، توجهت لاستلام الكتاب اللعين؛ فتبين أنه مرسل من مكتب الأمن الوطني، وهو عبارة عن سطر ونصف يتضمن ما معناه: مراجعة شعبة المخابرات – الفرع 227 فور تبلغ الكتاب.
فسألت الموظف الذي أراني الكتاب فيما إن كان سيزودني بورقة للمراجعة أو إن كان يجب أن أوقّع على الكتاب بأني تبلغته؟ فأجاب بالنفي وبأن دورهم يقتصر على إعطائي الكتاب لقراءته وإعادته كما هو بدون تزويدي حتى بنسخة أو صورة عنه! وقال أيضاً إن لديهم العديد من هذه الكتب للزملاء.
أثناء الحديث مع الموظف المكلف بالتبليغ، حضر أحد كبار المسؤولين في الدائرة واقترب مني مصافحًا، وقبّلني أيضًا ودعاني لشرب فنجان قهوة في مكتبه. فاعتذرت منه وتذرعت بانشغالي، وأريته الكتاب اللعين الذي كان بيدي حينها، وسألته:
- ما هذا؟
أجاب: لا أعلم.
سألته عن مكان الفرع 227. أجاب بأنه لا يعرفه. ألقيت التحية وانصرفت.
(2)
صباح اليوم التالي، ودّعت زوجتي وذهبت للفرع المذكور والذي عرفت أنه يدعى فرع المنطقة ويقع في تنظيم كفرسوسة خلف فندق الكارلتون (البناء الأزرق).
كنت قلقًا من احتمال اعتقالي وتحسبت لذلك؛ فجهزت قائمة بالأعمال المتراكمة وأعطيتها لزوجتي لمتابعتها في حال وقع المحظور. لكني رجّحت بشكل كبير أن أعود للمنزل في اليوم نفسه بعد هذه المراجعة، لذلك اخترت لباسًا خريفيًا خفيفًا ذهبت به، ودفعت ثمن هذه الرعونة في انتقاء الملابس أثناء فترة الاعتقال بسبب برد الشتاء القارس.
وصلت للباب، وقلت لهم إنه لديّ مراجعة؛ فطلب مني العنصر البطاقة الشخصية والموبايل، وطلب الانتظار بعد عدة أمتار وشاهدته يجري اتصالًا هاتفيًا، وبعد حوالي ربع ساعة حضر عنصر وطلب مرافقته.
اصطحبني للطابق الثالث من المبنى؛ حيث طلب مني الانتظار في الممشى بجانب إحدى الغرف، وأحضر كرسيًا للجلوس (استنتجت لاحقًا أن سبب الانتظار هو منح الشخص الموجود بالغرفة فرصة لقراءة ملفي، لأني حضرت للفرع بدون موعد مسبق).
بعد حوالي النصف ساعة، طلب مني أحد العناصر الدخول؛ فدخلت للغرفة وكانت تعمّها الفوضى. كان يجلس خلف المكتب شاب في الثلاثينيات من العمر يرتدي لباس الرياضة، يبدو أنه ضابط، رحب بي وطلب الجلوس على كرسي مقابله يبعد عن المكتب ثلاثة أمتار، وبدأ يقلّب أوراق بين يديه. لاحظت أنها صور لمنشورات الفيسبوك، وسألني:
- ما هي قصة الفيسبوك؟
فأجبته أنها حوارات بمسائل مختلفة اجتماعية وحول الأزمة.
فسألني: ألم تدرس في الجامعة أنت وأولادك على حساب الدولة، فلماذا تعارض؟
فقلت له بما معناه: صحيح درسنا على حساب الدولة وأنا أقدّر ذلك، وأنا لست معارضًا بالمفهوم السياسي، وإنما كنت أنتقد الفساد والمحسوبية وأطالب بإلغاء المادة الثامنة من الدستور السابق، وهذه مطالب مشروعة. وأضفت أنه بعد انتشار السلاح والفوضى لم أعد أتحدث سوى بالنواحي الاجتماعية فقط.
فقال لي بما معناه إن المشكلة بهذه الحوارات أنها تشكل بيئة معادية للدولة، وأنه هو شخصيًا بكل الأحوال ضد التعرض للمثقفين بهذه المرحلة، وفهمت من كلامه أن رأيه كان ضد استدعائي للفرع.
انتهى الحديث عند هذا الحد وطلب من الانتظار مجددًا في الممشى (تبين لي أن سبب الانتظار في الممشى حتى يقوم بتبديل ملابسه ويلبس الرداء العسكري).
بعد قليل، خرج من الغرفة بيده ملفي وسألني إن كنت أريد شيئًا. وسألني بلطف واضح إن كنت تناولت الفطور، وأبدى استعداده لإحضار فطور. فاعتذرت شاكرًا لطفه ولباقته. فقال لي: حسناً لنشوف المعلم شو بيقول.
حضر أحد العناصر وطلب مني مرافقته، فرافقته معتقدًا أني سأقابل المعلم (رئيس الفرع)؛ فإذا بي أجد نفسي بالطابق الأرضي أمام باب كتب عليه: السجن
دخلنا للسجن وقال العنصر للسجان بعد أن سلمه بطاقتي الشخصية: استلم. هذا مثقف.
أدخلني السجان لغرفة أخرى فيها ثلاثة أشخاص يجلسون خلف طاولة؛ أحدهم مدير السجن كما تبين لي لاحقًا، وهو شخص محترم.
طلب مني تسليم كل ما في جيوبي بما في ذلك الساعة، وسجّل كل ما سلّمته بدقة على محضر استلام بصمتُ عليه.
ثم طلب مني خلع كافة ملابسي والبقاء بالكيلوت؛ ففعلت. فتّشها بدقة وأعادها لي طالبًا ارتداءها، ثم اصطحبني للداخل وسلمني للعناصر بالداخل (السجانون) وطلب منهم وضعي بـ "الشبك القديم" وعدم حلاقة الشعر.
هكذا، دخلت المعتقل.. جلست مع بقية المعتقلين طيلة شهر كامل لا شغلة ولا عملة سوى الانتظار الممل، حتى استدعيت للتحقيق بعد شهر كامل.
(3)
الحياة داخل المعتقل رتيبة ومملة، انتظار وترقّب. الجلوس والنوم كانا على البلاط بدون أي عازل. بعد أن داهمنا الشتاء ببرده القارس، زوّدونا ببطانيات نجلس وننام عليها وكانت حصة كل أربعة بطانية واحدة.
من أشدّ المصاعب التي واجهتها بالداخل بعد البرد الشديد كان القمل الذي يستوطن بملابس كافة المعتقلين، ولا سبيل لمنع اجتياحه للملابس، وهو من نوع قمل الملابس وليس قمل شعر الرأس أو العانة،،، وكنا نكافحه بتخصيص حصة يومية قد تصل لساعتين بالبحث عنه وقتله، وهكذا أمضيت 40 يوم بنفس الملابس التي دخلت بها المعتقل أرتديها ليلاً نهاراً.
كان هناك ممرض يأتي بشكل يومي مرة صباحاً ومرة مساءً، يقوم بمعالجة المرضى بشكل بدائي، وقد استفدت منه حيث زودني بدواء الضغط الذي حرمت منه، وقد استطعت إقناعه بأني مريض ضغط، فكان يعطيني حبة صباحاً وحبة مساءً مما يتوفر لديه من حبوب ضغط.
بالنسبة للطعام الذي سئلت عنه كثيراً فكان على الشكل التالي:
الفطور حوالي السادسة صباحاً،
الغذاء حوالي الواحدة ظهراً،
العشاء حوالي السادسة مساءً،
في كل وجبة يتم توزيع رغيف خبز لكل معتقل وكان الخبز طازج علمنا أنه يأتي من أفران المزة التي تقع على المتحلق، وفي حال أراد المعتقل أكثر من هذا الرغيف، لا يبخل السجانون بتزويده بالمزيد في الكثير من الأحيان.
كان الفطور متنوع، يوم يكون ملعقة مربى التفاح لكل معتقل، وفي يوم آخر بضعة حبات زيتون أخضر (بين 7 – 10 حبات زيتون) وفي معظم الأيام نصف حبة بطاطا مسلوقة.
أما الغذاء فكان يوم برغل ويوم رز مع البازلاء، وجبة البرغل كانت جيدة جداً ووجبة الرز كانت سيئة.
أما العشاء فكان دوماً نصف حبة بطاطا مسلوقة ونصف حبة بندورة.
وكان يتم توزيع الشاي على المعتقلين يومياً بعد العشاء وكنا نتناوله بكاسات بلاستيك.
المكان الذي وضعت به هناك ويدعى "الشبك" كان يحوي حوالي المائة معتقل تقريباً يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً حسب حركة دخول وخروج المعتقلين اليومية، وكان به دورة مياه واحدة بها حنفية هي مصدر الماء الوحيد لقضاء الحاجة والغسيل، وكانت مشكلة دورة المياه هذه أنها بلا باب، يعني أن قضاء الحاجة كان يتم أمام المعتقلين، أما ماء الشرب فكان يتم تعبئة بيدونات بلاستيك من غرفة أخرى نشرب منها بكأس بلاستيك.
كان معنا بالمعتقل أشخاص ارتكبوا جرائم عادية وليست أمنية (سرقة – تزوير – شروع بالقتل – تقليد علامة فارقة – فرار وتخلف من خدمة العلم) وكان معنا شبيحة أيضاً ولجان دفاع وطني، وكان هناك معتقلين من 15 وحتى 70 سنة.
تعامل عناصر السجن مع المعتقلين كان جيداً نوعاً ما، فكانوا يخاطبوننا دائماً قائلين: يا شباب.
لم يكن هناك شتائم أو ضرب إلا لمن يرتكب ذنباً.
كان للمثقف بالمعتقل ميزتين: عدم حلاقة شعر الرأس على الصفر، والتحقيق معه يتم وهو مرتدياًلملابسه، والمثقف بالنسبة لهم هو الطبيب والمهندس والمحامي، وأحياناً المدرس، أما غير المثقف فكانوا يحلقون شعر رأسه على الصفر فور دخوله المعتقل، وكان التحقيق معه يتم وهو يرتدي (الكيلوت) فقط، مهما كان البرد قارصاً.
ولكن التحقيق كان يتم مع المثقف وغير المثقف وهو مرتدياً (الطماشة) على عينيه، حتى لا يرى المحقق.
بالنسبة لموضوع الضرب والتعذيب بالداخل وهو ما يسأل عنه كل الناس بشكل مباشر أو غير مباشر، فلم يكن كما يعتقد الناس، ولم يكن بالشكل الذي يعتقدونه، (هذا حسب ما شاهدته بنفسي وبالمكان الذي كنت به حصراً).
أثناء التحقيق فقط كان بعض المحققين (ثلاثة أو أربعة محققين من بين عشرة محققين تقريباً) عند التحقيق بمسائل السلاح (مجموعات مسلحة – ضرب حواجز ......) التمويل، المشافي الميدانية، يقومون بالضرب مع الإهانة والتجريح للحصول على معلومات محددة.
طبعاً هذه الجرائم تُنسَب لغالبية المعتقلين معنا.
كما كان بعض المحققين يضربون الشبيحة وأعضاء لجان الدفاع أيضاً.
أما باقي المحققين بالنسبة للتحقيق بغير هذه الجرائم فقلما يقومون بضرب من يستجوبوه، وبالتالي فكان هناك الكثير من المعتقلين في غير مسائل السلاح والتمويل دخلوا وخرجوا ولم يتعرضوا للضرب أو للإهانة.
الصلاة:
كان الكثير من المعتقلين وأنا منهم يؤدون مناسك الصلاة بالإيماء وهم جلوس، ومنهم من كان يقوم بحركات الركوع والسجود وهو جالس بشكل ظاهر أيضاً، وكان السجانون يلاحظون ذلك ويغضّون الطرف، وفي بعض الأحيان يتحدثون صراحة أن الصلاة بهذا المكان غير مقبولة بسبب النجاسة.
وكنا بدل الوضوء نقوم بالتيمّم بسبب تعذر الوصول للحنفية الوحيدة الموجودة بالحمام والقيام الوضوء لقربها الشديد من الأرض.
وكنا نتوقع أوقات الصلاة ونستنجها من أوقات توزيع الطعام ومن خلال رؤية السماء من بعض الشقوق بالمهجع الذي كان موقعه على سطح الأرض (وجيبة البناء) وكان سقفه من البلاستيك الأزرق المقوى المحجّر الذي يسمح لنا بمعرفة الليل من النهار.
الشاويش:
هو معتقل يساعد المحقق بتهيئة المستجوب بارتداء الطماشة على العينين وطلب خلع الملابس (لغير المثقف) ويساعد أحياناً بالتحقيق بإمساك المعتقل إذا اقتضى الأمر الضرب بالعصا أو تنفيذ (الكرسي الألماني، وسيلة التعذيب المعروفة)، كما يقوم بعملية السخرة من شطف للمهجع، وتوزيع الطعام.
وعندما يتم التحقيق مع الشاويش نفسه كان يرتدي الطماشة ويخلع ملابسه، وقد يتعرض للضرب هو أيضاً،
النوم:
كما سبق أن قلت النوم كان على البلاط بدون أي غطاء وكنا نضع رؤوسنا على أحذيتنا، أو على أرجل بعض، وكنا ننام بطريقة تدعى (التسييف) أي أن ينام الجميع على الجنب الأيمن أو الجنب الأيسر ويلتصقون ببعضهم البعض بطريقة لا تسمح بالتقلب للجنب الآخر أو النوم على الظهر حتى نشعر بالدفء بأجساد بعضنا البعض وتوفير مساحة لينام الجميع، وهذا التلاصق يسبب انتقال القمل والأمراض الجلدية بين المعتقلين بالطبع.
كان النوم على الظهر ترفاً لا نحلم به في الليل، ولكنه ممكن أثناء النهار حيث يكون معظم المعتقلين مستيقظون.
(4)
بعد مضي شهر كامل في المعتقل، وحوالي الساعة الثالثة عصراً تقريباً، بعد مضي شهر كامل بالتمام والكمال لدخولي المعتقل، فوجئت باستدعائي للتحقيق لأول مرة بالنداء على اسمي من قبل شاويش المهجع.
ارتديت الطماشةواصطحبني الشاويش لغرفة التحقيق حيث كان بها اثنان محقق رئيسي وآخر معاون له.
ابتدأ التحقيق بسؤالي عن مسقط رأسي بالشام، وقال مستهزئاً فإذن أنتم من جماعة باب الحارة، ثم سأل عن المنشورات على الفيسبوك، وعن المنشورات المعادية للنظام بها فقلت أنها من باب الحوار الذي تحدث عنه السيد الرئيس، فصرخ المحقق بلهجة منفعلة أن هذا ليس حوار وإنما شتائم وإساءات، فقلت له (وقد خشيت هنا أن يستعمل الشدّة معي) إن الشتائم والإساءات غير مقبولة ونرفضها بكل تأكيد وهي تحذف فوراً هي وصاحبها. فسألني المحقق:
كم مضى عليك موقوفاً؟
فقلت شهر كامل،
فسألني: هل تشعر بأنك ظلمت بهذا التوقيف.
كان السؤال مباغتاً ومفاجئاً وأحسست بأنه ملغوماً ولم أعرف بماذا أجيبه، فتشاغلت بالإجابة على سؤال آخر هامشي طرحه حينها المحقق الآخر ونسيت ماهيته، فأعاد المحقق الأول السؤال:
هل تشعر أنك ظلمت بهذا التوقيف طيلة هذه المدة؟
طبعاً لم يكن من الحكمة الإجابة بصراحة عن حقيقة المشاعر حينها إذ أنه من الحماقة تصنُّع البطولة في بطن الحوت، فخطر لي الجواب التالي:
سيادة المحقق أنا مقدر ما قاله الضابط الذي قابلته عندما أتيت أن هذه الحوارات تشكل بيئة معادية للدولة وليس هذا وقتها.
فاكتفى بهذه الإجابة، وانتقل للسؤال والاستفسار عن بعض الكتاب على الفيسبوك، فأجبته بما أعرفه عنهم بكل صراحة، وهم جميعاً يقيمون خارج سوريا، ومنهم بأسماء مستعارة لم أعرفهم.
انتقل المحقق لمرحلة أخرى قائلاً:
أنا مستعد لمسامحتك بكل ما جرى بالفيسبوك ومستعد لأخذ تعهد منك بالنسبة له، شريطة أن تحدثني عن علاقتك بالمسلحين!!!.
فأجبته مستغرباً:
أي محققين!! سيادة المحقق لا يوجد في المنطقة التي أقطن بها أية مسلحين!!
فسأل عن تاريخ السكن بالمنطقة وأين كنت أقطن قبلها؟
فقلت له أني من سكان الريف ونزحت بالشهر السادس عام 2012
فسأل عن العلاقة بالمسلحين قبل النزوح وقال أيضاً:
تذكرأن شاهدين اثنين أمام المحكمة قد يوصلوك لحبل المشنقة.
فقلت له بما معناه، في حال كان هناك شاهد واحد على ذلك فأنا مستعد لأسوأ النتائج.
هنا قال لي بما معناه لا تضطرني لاستخدام العصا أو الكرسي (وكان يلمح للتعذيب بالكرسي الألماني، وهو وسيلة تعذيب قاسية، استخدامها شائع حيث كنت، بالنسبة للمسلحين) فهناك من شاهدك مع المسلحين تشرب الشاي في إحدى المرات.
فقلت له:
سيادة المحقق منذ تاريخ نزوحي عام 2012، وحتى الآن أصدر السيد الرئيس أربعة قوانين عفو، ولو كان هناك شيء من ذلك لاعترفت به واستفدت من قوانين العفو.
فشعرت أن المحقق ارتبك.
فقال لي:
على كل حال فكّر بالموضوع (علاقتي بالمسلحين) إذا أردت الحديث عنه، غداً سنتابع.
وهكذا انتهى اليوم الأول من التحقيق الذي استغرق حوالي النصف ساعة في هذه الجلسة، وكانت لهجة المحقق فظّة جافة عالية تصل لدرجة الصراخ أحياناً، ولكنه والحمد لله وبكل صدق، لم يستخدم الشدّة من ضرب أو شتم أو تجريح، وإنما بعض السخرية والاستهزاء أحياناً.
بالعادة كان التحقيق يجري من المعتقلين على عدة جلسات يكون الفاصل بين الجلسة والأخرى عدة أيام قد تصل لعشرين يوماً أو أكثر، أما في حالتي ففي اليوم التالي مباشرة، وبنفس التوقيت حوالي الساعة الثالثة عصراً استدعيت ثانية للتحقيق، في هذه الجلسة كان محقق واحد فقط يطرح الأسئلة أما المحقق الثاني فلم يكن موجوداً.
تجاهل المحقق موضوع المسلحين وسأل مباشرة عن الفيسبوك، وطلب مني رفع الطماشة ليريني بعض المنشورات، فرفعت الطماشة ونظرت للمنشورات وتجنبت النظر لوجهه حتى لا يستغل الفرصة فيستعمل الشّدة أو يهينني، ولكني أعرف شكله فقد عرفته من صوته وكنت أراه قبل التحقيق حين يدخل ويخرج عبر المهجع،
بدأت بتقليب صور المنشورات وهي صور ضوئية لمواضيع نشرت في شهر أيار 2014، ورأيت صورة كاريكاتير مسيئة لرئيس الجمهورية، ومنشور تم الحديث به عن فطائس الجيش العربي السوري، فسألني المحقق عنهما وفيما إن كان هذا حوار مثقفين، فقلت له أن من قام بنشر هذه المنشورات شخص سيء وتافه ولا يمثل سوى نفسه وبكل تأكيد هذه المنشورات تم حذفها هي والشخص الذي قام بنشرها.
ثم سألني عن بعض المنشورات العادية فقلت إنها عبارة عن حوار عادي بين مثقفين، ولاحظت أن بعض المنشورات مدسوسة بالتقرير لا يمكن أن تنشر معرفتي مثل مقالات منشورة في بعض الصحف المعارضة فأكدت للمحقق أنها مدسوسة بالتقرير وليست صحيحة.
بعد ذلك طلب إعادة الطماشة لوضعها على العينين وتركني لمدة نصف ساعة تقريباً، وقد سمعت صوته يشارك بالتحقيق مع معتقل آخر في غرفة تحقيق أخرى، ثم عاد وبدأ يسأل عن العمل ومسائل عامة
أثناء التحقيق حضر المحقق الآخر وقال له على مسمع مني:
أضربه عصاية واحدة على الأقل.
فقال له:
هو يستاهل ولكن لن أضربه كرمال الشهادة التي يحملها (مع العلم أني شهدت حالات تم فيها ضرب طبيب ومهندس أثناء التحقيق)، وقال لي المحقق على سبيل المنيّة:
لقد كرمّتك أيضاً بالتحقيق معك وأنت مرتدياً ملابسك، (بالفعل شهدت حالات تم التحقيق فيها مع طبيب ومهندس وهم يرتدون الكيلوت فقط)
فقلت له:
أشكرك كثيراً وأنا قدّرت لك ذلك.
ثم عاد المحقق للسؤال عن الفيسبوك، فقلت له بعدما شعرت بأن لهجته أضحت عادية وهادئة بعدما أخذ الكفاية من المعلومات:
سيادة المحقق، الله يلعن أبو الفيسبوك من هون لعندو، بكرا بطلع وبسكّرو، الشغلة مومستاهلة يصير هيك وتصل الأمور لهون.
فقال: إن المشكلة تتجلى بأن المنشورات لا تساعد بذلك،
فقلت: إن كاتب التقرير (بدّو يجيب آخرتي) فهو لم يصور كل الحقيقة التي تعكس كامل الحقيقة وأن الحوار يشمل العديد من المؤيدين، وأن هناك بالمقابل منشورات ومواضيع عديدة في مصلحة الدولة وتؤيد وجهة نظرها، فطلب أسماؤهم باهتمام وقام بتسجيلهم.
ثم سأل عن المواضيع التي كنا نتحدث بها بالمجموعات، وبدأ بتدوين الإجابات فقلت له أننا كنا نتحدث عن مكافحة الفساد وسيادة القانون واستقلال القضاء، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور القديم، وهذا ما تمّ بالدستور الجديد، فسأل عن ماهية هذه المادة فقلت: إنها التي تعطي حزب البعث حق قيادة الدولة والمجتمع مما تسبب بالبيروقراطية والترهل. فسجل ذلك على مسودة المحضر.
ثم سأل فيما إن كانت زوجتي وأولادي معارضين مثلي، فنفيت له ذلك.
فقال: مو معقول ما يكونوا متأثرين بأفكارك، وأنت تنفي ذلك عنهم لأنك خايف عليهم.
فذكرت له بعض التفاصيل التي تؤكد كونهم مؤيدين.
ثم سألني في نهاية التحقيق: ما اسم صفحتك؟
فأجبته: انها باسمي الشخصي.
فاستفسر قائلاً: أهذا اسمها على الانترنت؟؟
فصححت له: بل على الفيسبوك.
فسأل: وهل هناك فرق بينهما؟
فأجبت: الفيسبوك جزء من الانترنت.
واكتفى بهذا الحد معلناً انتهاء التحقيق الذي استغرق هذه الجلسة حوالي الساعة والنصف، وكانت لهجة المحقق هادئة وودودة أحياناً، فرفعت الطماشة وخرجت من غرفة التحقيق باتجاه المهجع.
الشهداء بالمعتقل
في اليوم التالي لدخولي المعتقل حوالي السابعة صباحاً لاحظت حركة غير عادية بالمهجع بجانب الباب الرئيسي للسجن، حيث كانوا يبعدون المعتقلين عن الباب لداخل المهجع، وبعد قليل بدأ بعض المساجين العراة ما عدا الكيلوت وتبين فيما بعد أن اسمهم (سخرة الموتى) يأتون من تحت -حيث توجد المنفردات والغرف الجماعية التي يضعون بها المعتقلون الخطرين-يحملون بطانية عسكرية تحوي جثة معتقل.
وضعوا الجثة بجانب الباب الرئيسي ثم ذهبوا وأحضروا غيرها، وهكذا حتى بلغ مجموع الجثث حوالي الأربع أو خمس جثث.
كنا نقف على بعد مترين من الجثث التي راكموها فوق بعضها لاحظت أن بعض الجثث عارية تماماً وأخرى ترتدي الكيلوت، أو أسمال بالية مهترئة، تبين لي فيما بعد أن بقية المعتقلين حينما يتوفى أحد زملائهم يقومون بنزع ثيابه وارتدائها لتقيهم قرّ الشتاء.
كما لاحظت أن الوفيات سببها الأمراض وليس التعذيب، فهناك أمراض مستوطنة بالمعتقل (خرّاجات – غرغرينا – أمراض جلدية أخرى مهولة – البرد الشديد) هي التي تتسبب بهذه الوفيات، وهذا ما أكده معتقلون سابقون وأطباء كانوا معنا.
بعد تجميع الجثث يأتي ممرض معه قلم تخطيط ويضع رقم لكل جثة على الجبين أو البطن أو الكتف (المهم أنها منطقة خالية من الشعر) بعد ذلك قام عناصر السخرة بإشراف المساعد السجان بنقل الجثث خارج السجن، حيث تبين لي فيما بعد أنهم يضعونها بشاجنة مغلقة تذهب بها لجهة مجهولة.
هذا المنظر الذي أصابني بالذهول، كان عادياً بالنسبة للمعتقلين السابقين، لأنه كان يتكرر بشكل يومي.
وبالفعل بقيت طيلة وجودي بالمعتقل أشهد هذا المنظر بشكل يومي حيث يتم إخراج 4 – 5 جثث، ولكن بالفترة الأخيرة انخفض العدد لجثة أو جثتين بسبب تكثيف العلاج الذي يقدموه للمعتقلين على ما يبدو (أبر مضادة للاتهاب – سائل بنزوات مضاد للجرب والأمراض الجلدية)
وهكذا كانت المفارقة التي نتندر بها أنه حينما تبدأ الناس بالخارج صباحها بفنجان قهوة على صوت فيروز، كنا نتصبح بمنظر الجثث، وبعضها كانت رائحتها تفوح منها أيضاً.
في بعض الأحيان كنا نؤدي صلاة الجنازة على هذه الجثث إن كان الجو مناسباً ويسمح بذلك، وفي كل الأحوال كنا نقرأ على أرواحهم الفاتحة وندعو المولى عزّ وجلّ أن يرحمهم ويحتسبهم شهداء، وهذا ما نرجوه لهم.
(5)
بعد أسبوع من انتهاء التحقيق استدعاني المحقق مرة أخرىحوالي الساعة الثامنة مساء، وسألني فيما إن كنت أحذف المنشورات المسيئة من صفحتي وبدا وكأنه يريد أن يسمع شخص آخر بجواره جوابي -فأنا بالطبع أضع الطماشة- فأجبت بالإيجاب، ثم طلب مني رفع الطماشة لأبصم على الضبط المنظم، وقال لي إنك ستخرج غداً من هنا، وبالفعل بصمت على ضبط من صفحتين دون أن يتسنى لي قراءته طبعاً، وسألت المحقق فيما إن كان الخروج للمنزل مباشرة، فقال:
لا على المحكمة وهناك بتدبر راسك.
وبالفعل في صباح اليوم التالي تم اقتيادي برفقة بعض المعتقلين المفرج عنهم من الفرع وقاموا بتسليمنا للنيابة العامة العسكرية وأودعنا نظارة القضاء العسكري بالمزة.
وتبين لي لاحقاً أن كافة المفرج عنهم من الأجهزة الأمنية يتم تسليمهم للنيابة العامة العسكرية التي تقوم بدورها بإحالتهم بشكل تلقائي لمحكمة الإرهاب أو للقضاء العادي أو للقضاء العسكري بدون حتى استجواب، كما تبين أنه ليس للنيابة العسكرية سلطة تقديرية في الإحالة لمحكمة الإرهاب أو القضاء العادي فعلى ما يبدو أنه تأتي إشارة مع الضبط الأمني للجهة التي يجب الإحالة إليها، إذ أن المساعد بنظارة القضاء العسكري قال لي عندما تحدثت معه بالموضوع وبعدما نظر لضبطي أنني سأحول لمحكمة الإرهاب وأنه ليس لهم دور بهذا الموضوع.
وبالفعل بدأ المعتقلون من مختلف الأجهزة يتوافدون لنظارة القضاء العسكري، وبنهاية ذلك اليوم تم سوقنا لمقر الشرطة العسكرية بالقابون، وأمضينا هناك يومين كاملين ريثما تم تسليم ملفاتنا للنيابة العامة بمحكمة الإرهاب التي قررت إيداعنا بالسجن المدني في عدرا.
بعد يومين كاملين تم إيداعنا بسجن عدرا، وبقيت هناك حوالي الشهر حتى استدعاني قاضي التحقيق في محكمة الإرهاب للاستجواب.
في الحقيقة كان قاضي التحقيق راقياً ومهذباً ومحترماً للغاية معي وسألني عن الموضوع فأجبت بإسهاب واستفاضة عما حصل معي بفرع الأمن، وقلت إن صورالبوستات المرفقة بالضبط، مزورةومفبركة، فقرر القاضي إخلاء سبيلي.
وهكذا انتهت المحنة التي استمرت حواليالسبعين يوماً، وخرجت من المعتقل الصغير إلى المعتقل الكبير، الذي حاول هذا الشعب العظيم في 15 آذار 2011 تحطيم جدرانه ولقي جراء ذلك الويلات، مصداقاً لمقولة شاعر تونس العظيم أبي القاسم الشابّي.
((وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق))
قصة معتقل:
أحد الإخوة المعتقلين معي بفرع الأمن وهو يعمل موجهاً في إحدى المدارس بدمشق ويرجع أصله للجزيرة (الدير أو الحسكة)، وهو من سكان "ببيلا" سابقاً، ثم نزح لمساكن الزاهرة بعد اندلاع الحرب، ولم يكن يعلم سبب اعتقاله،
غادرت المعتقل الأمني وتركته هناك لمصيره، ثم علمت بالمصادفة بتحويله لسجن عدرا، فذهبت وقابلته وفاءً للصداقة التي ربطتنا بالمعتقل ولمعرفة ماذا حصل معه ومع باقي الرفاق بعد مغادرتي المعتقل.
بدأ الحديث قائلاً أنه بتمام اليوم الخمسين لاعتقاله بدون أن يتم التحقيق معه أو أن يعرف سبب اعتقاله، سأل المساعد دريد -وهو سجان عرف بأخلاقه الجيدة- مساعدته في سرعة التحقيق معه ومعرفة سبب اعتقاله، فاستغرب المساعد عدم التحقيق معه طيلة هذه الفترة، وقام في اليوم الثاني بالاطلاع على ملفه، ثم أخبره بأنه من المعتقلين المنسيين بالفرع!!! وأنه كان يفترض تحويل لفرع الريف الذي طلبه بالأساس في اليوم الثاني لاعتقاله، وأنهم نسوه بفرع المدينة بالغلط، وأن مشكلته لا تعدو كونها تشابه أسماء بسيطة، وأنه طلب منهم إحالته لفرع الريف فوراً.
وبالفعل في اليوم التالي تم تحويله لفرع الريف وهو بالبناء الملاصق لفرع المنطقة الذي نعرفه خلف الكارلتون،
بعد تسعة أيام من تحويله لفرع الريف استدعي للتحقيق، وباغته المحقق على الفور بسؤاله عن المجموعة المسلحة التي كان ينتمي إليها، فأجابه بأنه يعمل بالتدريس وأنه مازال قائماً على رأس عمله وهذا يتناقض مع تهمة عمله مع المسلحين، فقام المحقق بضربه وتعذيبه بواسطة "الكرسي الألماني" أربع مرات، فقال له المعتقل أن تهمته تشابه أسماء فقط كما أخبروه بفرع المدينة، فسخر منه المحقق، وقال له:
ستون يوماً بالمعتقل وتريدني أن أخرجك بتشابه أسماء!!! هذا مستحيل، سأضع لك تهمة تقديم طعام للمسلحين.
فقال له صديقي: إن "ببيلا" منطقة مصالحات وأن المساعدات الغذائية من قبل الهلال الأحمر متوفرة بكثرة هناك ولا يعقل ولا يصدق أن يقوم هو بتقديم الطعام لأحد هناك، ورجاه صديقي بأن يجعل تهمته التظاهر فقط، فرفض المحقق ذلك بحجة أن التظاهر سيعجل بإطلاق سراحه وأجبره على التوقيع على اعتراف بتقديم الطعام للمسلحين.
بعد قضاء حوالي السبعين يوماً بالمعتقلات، تم تحويله لمحكمة الإرهاب واتهمته النيابة بجرم تمويل الإرهاب، وهي جريمة عقوبتها بين 15 و20 سنة، وقام قاضي التحقيق في محكمة الإرهاب باستجوابه وتوقيفه، ومصيره الآن مجهولاً معلق بيد الرحمن شأنه شأن آلاف المعتقلين في عدرا الذين يحاكمون أمام هذه المحكمة اللعينة.
الحشّاش:
كان معنا بالمعتقل شخص من سرغايا (قضاء الزبداني) ألقي القبض عليه من قبل عناصر أحد الحواجز، لأنهم وجدوا معه مخدرات في سيارته وكان هذا الفرع يحقق بكافة الجرائم حتى الجنائية منها.
عندما استدعي للتحقيق، باغته المحقق بلهجته الجافّة بالسؤال الروتيني لكل معتقل:
مع أي مجموعة مسلحة كنت تعمل ولك؟
المعتقل: سيدي الله وكيلك أنا مالي مسلح أنا كمشوا معي حشيش!
المحقق: وماذا ستفعل بهذا الحشيش؟ تعاطي أم تجارة؟
المعتقل: سيدي يلي بدك تعاطي أو ترويج ..... والله العظيم أنا مالي مسلح؟
,,,,,,,,,,,,,,,,
عندما أخبرني المعتقل ما حدث معه بالتحقيق، قلت له:
الله لا يعطيك عافية، تجارة الحشيش عقوبتها الإعدام أيضاً.
فقال لي:
مو مشكلة أستاذ، المهم أطلع من هون وبدبر حالي بالمحكمة !!!
***
تصفية المعتقلين:
عندما التقيت مع صديقي الذي كان معتقلاً معي بفرع الأمن (الفرع 227 المنطقة)، وقد تم تحويله لعدرا بعد إطلاق سراحي، سألته عن مصير بعض الإخوة الذين كانوا معنا، فتألمت لمصير اثنين منهما تمت تصفيتهما بالداخل.
الأول: يدعى عبد القادر (نسيت كنيته) شاب أسمر في مقتبل العمر من "الرقة" عمره حوالي 30 سنة ولديه محل موبايلات هناك، وقد أخبرني أن تهمته كانت الترويج لداعش وتجنيد عناصر للتنظيم، ولم أعد أذكر تفاصيل التهمة ولكن أذكر أن الأدلة التي واجهه بها المحقق كانت سخيفة ولا يأخذ بها القضاء إذا تم تحويله إليه، ولكن حذرته من أن التهمة تعتبر خطيرة جداً بالنسبة للمخابرات.
في التاسعة من مساء أحد الأيام نودي عليه وتم نقله للأسفل حيث توجد المنفردات والمهاجع الجماعية التي يضعون بها المعتقلين الخطرين.
في السابعة من صباح اليوم التالي رآه المعتقلون جثمانه بين الجثث التي تخرج من القبو يومياً، بشكل لا يدع مجالاً للشك بأنه تمت تصفيته أثناء الليل، إذ لم يكن المرحوم يشكو من أي مرض قبيل نقله للأسفل منذ ساعات، فصلّوا عليه صلاة الجنازة، قبل أن ينقل العناصر الجثامين إلى المجهول.
الثاني: ويدعى عباس (نسيت كنيته أيضاً) وهو من مسلحي "مضايا" (قضاء الزبداني) وأعتقد أنه عسكري منشق على ما أذكر، تم القبض عليه بمعركة عنيفة مع قوات النظام، أصيب خلالها إصابات بالغة كاد يلقى حتفه فيها، فتم نقله للمشفى حيث أجريت له عملية تم فيها تركيب سيخ خارجي على رجله اليسرى في منطقة الركبة، وبعد العملية الجراحية بساعات تم نقله للفرع مباشرة، ونقل معه أيضاً السيروموالقثطرة البولية، ووضعوه معنا بنفس المكان، وكان يأتي ممرض ليعتني بجراحه ويعالجه، وكان يحمله ثلاثة من المعتقلين لقضاء الحاجة ويبقون معه وينظفوه، وقد شهدت هذه الحالة طيلة وجودي بالمعتقل، وعندما يتم التحقيق معه لم يكن يستدعى لغرفة التحقيق لصعوبة نقله، وإنما كان المحقق يحضر بنفسه للمهجع ليحقق معه، وأثناء التحقيق كان يطلب منا الابتعاد عنه لداخل المهجع والنظر باتجاه الحائط حتى لا نرى و لا نسمع التحقيق معه، ولكن كنا نسمع الأسئلة التي تدور عن أسماء معينة وكان يريه المحقق بعض الصور ويسأله عن الأشخاص الظاهرين بالصورة، وكان المحقق يركله بعد الانتهاء من التحقيق على بطنه ووجهه كنوع من الانتقام والتشفي منه.
بعد خروجي أخبرني الأخ الذي التقيته أن "عباس" بعدما تماثل للشفاء ونزع الأسياخ عنه، حضر المحقق وقال له أنه سينقله للقبو حيث الغرف الجماعية، وأضاف قائلاً:
لا تخف لن أقوم بقتلك!!.
فقال له عباس بنبرة لا تخلو من التحدي:
إذا متُّ في هذا المكان فسأموت شهيداً.
وبالفعل نُقل عباس للأسفل، وبعد يومين خرج جثة هامدة وكان منظره يوحي أنه قد تمت تصفيته، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
أسئلة كبرى يطرحها موضوع تصفية المعتقلين في فروع الأمن:
من يتخذ القرار بتصفية المعتقل؟؟
ما هو المعيار المتبع بتصفية المعتقل؟؟
بدلاً من تصفيته بالمعتقل لماذا لا يتم تحويله للمحاكم التي يسيطرون عليها والتي تستطيع تولي هذه المهمة القذرة؟؟
لا أظن أن القرار بتصفية المعتقل يتخذه المحقق بنفسه لأن رتبته الصغيرة كصف ضابط، أو كمدني حقوقي متعاقد معهم لا تسمح له بذلك، بالرغم من الدور الكبير الذي يلعبه بنقل المعلومات التي انتزعها من المعتقل ونشاطه إلى رؤسائه أو من هو أعلى منه رتبة.
صحيح أنه ليس للإنسان قيمة عندهم ولا أحد يحاسب أو حتى يتأسف لوفاة معتقل، ولكن أعتقد أن من يتخذ القرار بالتصفية هو إما رئيس الفرع أو رئيس الإدارة نفسه، أو ربما رئيس قسم التحقيق، وهذا طبعاً لا يمنع من حدوث حالات تصفية بقرار ذاتي من محقق حاقد تعتريه رغبة عارمة بالانتقام لمقتل شقيق أو قريب، إذ أنه لا أحد بالجهاز الأمني يهتم لوفاة أي معتقل.
المصدر: العربي الجديد - سامر معتوق
↧