"نشأتُ في بيت منحل، ومات شقيقاي في ريعان الشباب بعد انخراطهما في عالم الجريمة والمخدرات، والثالث مصاب بالإيدز، ولكني تعلمت قيم التعاون والمساعدة، فكان جزائي المحاكمة&8230;".
عبر تفاصيل مقالها المنشور بصحيفة الغارديان البريطانية الثلاثاء 20 ديسمبر/كانون الأول 2016، تصطحبنا رئيسة المجلس الوطني للأطفال بالدنمارك ليزبيث زورنيغ آندرسن Lisbeth Zornig Andersen في رحلة تبدأ من طفولتها، وحتى محاكمتها مؤخراً بتهمة توصيل 6 لاجئين وتقديم القهوة لهم.
إذا كنت مستعداً للإبحار في التفاصيل فإليك نص المقال:
ندما عرضتُ على عائلة سورية لاجئة، أن أقلهم بسيارتي عبر الدنمارك، لم أكن أتخيل أني سينتهي بي الأمر في المحاكم بتهمة تهريب البشر.
لم تكن طفولتي في منزل عائلة متوسطة لها نظام وغداء محترم كل يوم أحد، وتجلجل في أرجاء بيتها الضحكات وأحاديث السمر، بل تربيت في مزرعة متواضعة على أطراف قرية دنماركية نائية، حيث كان الماء مثلجاً والحمام في الحظيرة الخلفية.
يوم الأحد، كنا نرى في الهوت دوغ وجبة فاخرة، أما أمي وزوجها فكانا دوماً ثملين لا يعملان، فقد كانا يعيشان على المعونات. باختصار، لم تكن بيئتي التي نشأت فيها تلك البيئة الرائعة التي تعلمك المثل والقيم الأخلاقية أبداً.
لكنني مع ذلك تعلمت من إخوتي الثلاثة أن الناس للناس. كنا نحن الأربعة نتعاون، وحتى رغم ضيق ذات اليد، وحتى لو كنا نلبس الأسمال إلى المدرسة ونبحث وننقب في الأرض عن حبة أو حبتي بطاطا لنأكلها على العشاء، فقد كنا دوماً يداً واحدة. فهمت أن قيمة الأخوة والتعاون ثمينة وقت الشدة حينما تضيق بك الدنيا وتسود.
لم يأخذني أحد إلى الكنيسة قط عندما كنت طفلة، لكنني عندما تعرفت أول مرة على الكتاب المقدس والتعاليم المسيحية في سنين مراهقتي، سمعت قصة السامري الصالح وتعلمتها. كنت أعرف معناها لتوي؛ ولذلك في المكان الذي ترعرعت وكبرت فيه كان من الطبيعي والعادي جداً أن رأيت أحدهم يمشي في الطريق، وكنت أنت محظوظاً بأن معك سيارة، عندها تتوقف وتعرض عليه توصيله. هذا هو الطبيعي وهذه كانت عادة الجميع.
واحداً بعد الآخر بدأ إخوتي ينسحبون من منزل عائلتنا ويوضعون في مراكز ومؤسسات شتى. ثلاثتهم انغمسوا في عالم الجريمة وإدمان المخدرات. مات اثنان منهم في ريعان الشباب، والثالث مصاب بالإيدز. للأسف لم يحظ أيٌّ منهم بفرصة حقيقية للحياة قط؛ فالضرب والإهانات والإساءات التي شبعوها في البيت نيابة عني وحماية لي قد قسّت قلوبهم وعقولهم وأرواحهم فغدت كالحجارة أو أشد قسوة.
أما أنا فلسبب ما أجهله تمكنت من الهرب والالتحاق بالمدرسة وإتمامها، ثم تخرجت في جامعة كوبنهاغن، وحزت درجة في الاقتصاد، ثم حصلت على وظيفة في البنك الدنماركي Danske Bank أكبر بنوك الدنمارك.
عندما كنت في المدرسة كنت محظوظة بمقابلة أناس طيبين عرفوا كيف يروضون البنت الصغيرة العنيفة الهائجة مضطربة العواطف التي كنت إياها. صدقوني إن قلت إنها لم تكن مهمة سهلة. ثم في إحدى المؤسسات الخاصة بحالات الفتيات المستعصية، التقيت بكارين التي تمكنت أن تنفذ إلى داخلي وتلِجَ إلى أعماقي رغم كل زوابع الغضب والكراهية والنفور التي تعتمل فيّ. صبرت كارين عليّ حتى خضعت في النهاية ووثقت بها، فأصبحت هي معلمتي وأمي الروحية، واليوم بعد 34 سنة ما زالت كذلك، فهي الشخص الذي دفعني لدخول الجامعة، ولا أظن شيئاً من هذا كان ليحدث لولا وقوفها معي.
ثم قبل بضع سنوات دعيت للقاء الوزير الاجتماعي الدنماركي. استغربت كثيراً، إذ لم يسبق لي أن دعيت لفنجان قهوة مع شخص في الحكومة من قبل، لكنني طبعاً قبلت الدعوة. اكتشفت أن الوزير أراد سؤالي إن كنت أرضى أن أرأس المجلس الوطني للأطفال، الذي هو منظمة دنماركية تهدف لرعاية حقوق الصغار.
ذهلت وانعقد لساني من الدهشة، فلم أكن حتى أعرف ما هذا المجلس الوطني للأطفال وقتها. فوراً اتصلت بكارين، فلم يبدُ عليها التفاجؤ، بل قالت "في الواقع كنت أظنك ستناسبين منصب المديرة التنفيذية لمؤسسة راديو وتلفزيون الدنمارك (التي هي مثل بي بي سي الدنمارك)، لكن المجلس الوطني للأطفال منصب جيدٌ هو الآخر".
لطالما آمنت كارين أن بوسعي أن أبرع بأي شيء، فهي من أتباع عالم النفس التنموي أورييه برونفينبرينر الذي كتب "لكي ينمو الطفل بشكل طبيعي فهو بحاجة دوماً لنشاط مشترك أكثر تعقيداً مع شخص بالغ أو أكثر، تربطهم بهذا الطفل علاقة عاطفية غير عقلانية. ماذا أعني بكلمة "علاقة عاطفية غير عقلانية"؟ أعني أن على أحدهم أن يجن بهذا الطفل. لعلها طريقة برونفينبرينر في التعبير عن كلمة "الحب" التي يصعب تطبيقها في المؤسسات المهنية التي لم يسبق لكثير من أطفالها أن اختبروا شعور بيتٍ يضمهم، لكن كارين كانت أكثر من كافية بالنسبة لي.
وهكذا أصبحت رئيسة المجلس الوطني الدنماركي للأطفال. كانت تلك فرصة لكي أحدث فرقاً مؤثراً، أخذتني هذه الفرصة من مهنة مغمورة في التجارة والاقتصاد إلى عالم مناقشة السياسة الاجتماعية في ميادين الإعلام الوطني.
أطلقت حملة لتحسين أوضاع الأطفال الذين يلقون تحديات وصعوبات في الدنمارك، كما كتبت كتاباً عن قصة حياتي كي أشارك الناس وأُطلعهم على شكل الحياة القاتم في ذلك القسم من المجتمع الذي يعيش على المعونات؛ حتى إنني ظهرت أيضاً في فيلم وثائقي اسمه "طفولتي في الجحيم". يعني باختصار أني نذرت نفسي وكرَّستها لوظيفتي تلك التي انهمكت بها وعشقت كل لحظة منها.
بعد مضي 3 سنوات قررت أن أؤسس شركة غير ربحية خاصة بي، سمَّيتها The House of Zornig "دار زورنيغ" كرستها لتطوير طرق أفضل لمساعدة العائلات المضطربة، ليس للأطفال وحسب، بل للآباء والأمهات أيضاً، وهذا هو ما أنشغل حالياً به، فأنا لا أريد للمزيد من الأطفال أن ينتهوا مثل إخوتي، ولا أريد لأحد أن يضطر للمرور بما مررت به.
***
يقوم جزء من عملي على إعداد عروض تقديمية ومحاضرات حول البلاد، فأتحدث عن تجربتي وأحاول إلهام الناس كي يحذو حذو كارين فيما أسدته لي، كما أحاول نشر وتعزيز مبادرات اجتماعية أكثر فاعلية.
ويوم الاثنين 7 سبتمبر/أيلول 2015 كنت في جنوب الدنمارك على مقربة من المنطقة التي نشأت فيها، ألقي واحدة من محاضراتي وعروضي التقديمية، وصادف أن ذاك كان اليوم الذي ضربت فيه الدنماركَ موجةُ اللاجئين الكبرى؛ آلاف من الهاربين من حرب سوريا يعبرون أوروبا، أكثرهم يتجه إلى السويد، حيث كان وقتها رئيس الوزراء يرحب بهم.
سمعت في الأخبار أن المئات من اللاجئين دخلوا الأراضي الدنماركية من بلدة بوتغارتن الحدودية في ساحل ألمانيا الشمالي، حيث استقلوا مركباً عبر بهم البحر إلى بلدة رودبيهافن الساحلية جنوبي الدنمارك، وهم الآن في طريقهم سيراً على الأقدام نحو السويد. المسيرة إلى السويد طويلة، فهي تبعد حوالي 160 كيلومتراً، والجو كان حاراً، ولكي تصل إلى السويد عليك أولاً أن تمر بكوبنهاغن ثم تعبر من هناك إلى السويد. كنت لتوي في طريقي إلى كوبنهاغن، وكان معي في سيارتي 6 مقاعد شاغرة.
ذهبت إلى رودبيهافن، وهناك كانت بانتظاري مشاهد لم أرَ لها مثيلاً في الدنمارك. رأيت لاجئين في كل مكان مثل يوم الحشر: كباراً وصغاراً وأمهات وأرامل ومراهقين، شعرهم أشعث، ووجوههم مغبرة مرهقة، يحمل أكثرهم أكياساً بلاستيكية صغيرة بها أغراضهم، أما البعض الآخر فلم يأتوا إلا بالثياب التي عليهم.
نظرت في وجوههم فلم أرَ يأساً، بل تجهماً كالحاً وإرهاقاً وعزيمة على الوصول. أمسكت الهاتف واتصلت بزوجي مايكل وقلت له "اسمعني، سأعرض على بعضهم توصيلهم بالسيارة"، فأجابني "طبعاً افعلي. ائت إلى بيتنا وسأعد أنا القهوة".
لم نكن متأكدين ما إذا كان قانونياً لنا أن نعرض على اللاجئين توصيلهم، لذلك اتصل مايكل بالشرطة ليسألهم، فأجابوا أنهم لا يدرون. الظاهر أن أحداً لم يكن قد استعد بعد للأحداث المتلاحقة.
رأيت في المكان العديد من أفراد الشرطة، لكنهم لم يوقفوا اللاجئين أو يحولوا دون مسيرهم نحو السويد؛ لذا ركنت سيارتي جانباً، وأجَلْتُ نظري حتى رأيت مجموعة من 6 أشخاص، منهم طفلتان صغيرتان تبلغان من العمر 5 سنوات. طفلتان جميلتان، لكنهما هادئتان جداً. تساءلت في نفسي عما رأته هاتان البنتان وما شهدتاه.
سألت المجموعة إن كانوا يريدون توصيلة، فردوا بالإيجاب. كان هناك شرطي يقف بجانب سيارتي، فسألته إن كان ينوي منعي، فأجابني "لا". وفيما صعد اللاجئون إلى السيارة قفز لنا صحفي تلفزيوني وصوَّرنا، فشرحت له أن معي مقاعد شاغرة في السيارة، وأني أعرض عليهم توصيلة، وبذلك انطلقنا في طريقنا.
منزلنا يقع في سولرود ستراند جنوبي كوبنهاغن، فاصطحبت العائلة معي. غفت الطفلتان فوراً في السيارة، فقد كانوا منذ 40 يوماً يتنقلون ويرتحلون سيراً على الأقدام ويركبون القطارات والحافلات. لقد أضاعوا كل متاعهم عندما عبروا البحر الأبيض المتوسط إلى اليونان، ولم يكن معهم سوى الثياب التي على أجسامهم.
كانوا من دمشق، الأربعة الكبار، أحدهم اسمه يونس درس الصيدلة في الجامعة، أما أخوه فكان معالجاً نفسياً. كانوا يعيشون حياة طبيعية يعملون ويدرسون عندما هطلت القنابل عليهم فجأة ودمرت منزلهم. أبوهم كان بالأساس هناك في السويد مع أخٍ لهم يعيشون في هيلسنبوري، وإلى هناك كانوا يشدون الرحال.
وصلنا منزلي في سولرود ستراند، وكان مايكل بانتظارنا مع القهوة والصودا والمعجنات بالقرفة. تجاذبنا الحديث وقدمنا لهم مكاناً للاستراحة والعشاء والنوم الهانئ ليلتها، لكنهم رفضوا بأدب لأن كل همهم كان الوصول إلى السويد بأسرع ما يمكن، فالرحلة طالت كثيراً، وهم الآن على مقربة من الوصول أخيراً لنهايتها، فما كان من زوجي إلا أن عرض عليهم توصيلة إلى محطة القطار على الجانب الدنماركي من الحدود، ثم اشترى لهم تذاكر إلى هيلسينبوري، ودلهم على القطار الصحيح، وتأكد أنهم جميعاً صعدوا على متنه. بعد بضع ساعات جاءنا اتصال من أبيهم الذي طار فرحاً وامتناناً.
كان أمراً جميلاً، ولكننا مع ذلك شعرنا بتأنيب الضمير لأننا لم نفعل سوى القليل، ومع ذلك ثمّنها هؤلاء الـ6 كثيراً جداً. كنا نشاهد الأخبار ورأينا أن المئات من اللاجئين ما زالوا على الطرقات وأن المزيد يتوافدون.
فكرنا أن نقدم المزيد من التوصيلات لهم، لكننا أدركنا أن ذلك كالقطرة في المحيط، فلجأنا إلى فيسبوك وكتبنا عن تجربتنا التي خضناها وما فعلناه وعن تلك العائلة العادية جداً التي تمر بمحنة وظروف عصيبة، وطلبنا من الآخرين المساعدة.
خلال ثوانٍ كانت قصتنا قد انتشرت آلاف المرات، وقدّرنا لاحقاً أنها لا بد وصلت إلى أسماع 300 ألف شخص. بدأت مئات السيارات تتوجه نحو رودبيهافن للمساعدة، وامتلأت صفحتنا على فيسبوك بالطلبات. هذا يقول "أنا ذاهب إلى هناك. أين أجدهم؟" والآخر يقول "لدينا سيارات جيب، فأين نلقاهم لنقلّهم؟" والثاني يقول "لدي مأوى وطعام، تعالوا بهم إلى هنا عندي"، والثالث يقول "عندي زورق وأستطيع نقل 50 منهم إلى السويد." حتى إن وزيراً سابقاً في الحكومة اتصل وقال لي إنه يريد أن يتكفل بدفع أجر حافلات تذهب لتقلّ اللاجئين، فهذا أكثر كفاءة.
اتصل مايكل زوجي بشركة باصات وسألهم إن كان بوسعه استئجار عدد من حافلاتهم، فسأله الشخص المسؤول "أهِيَ من أجل اللاجئين؟" فأجابه مايكل بالإيجاب، مشفقاً أن يكون جواب المسؤول بالرفض، بيد أن الرجل على الخط قال "خذوا حافلاتنا لا نريد منكم أجراً".
عظيم جداً، لكن من أين لنا بسائقين يقودون الحافلات؟ طلبنا متطوعين على فيسبوك، وفوراً تجمع لدينا سائقون أكثر من الباصات نفسها.
كل هذا حدث في خضم يوم الإثنين إياه؛ لكن في اليوم التالي أصدرت الشرطة بياناً تعلن فيه أن توصيل اللاجئين محظور قانوناً؛ وهكذا ذهبت فكرة الحافلات أدراج الرياح، لكن العديدين ظلوا يقودون سياراتهم جنوباً ليعرضوا التوصيلات متجاهلين ذلك البيان.
لقد أجمع الكل على أننا لا نقبل أن يضطر نازحو الحرب الذين يمرون بمحنة في شوارع الدنمارك النوم في العراء، في حين أن كثيرين منا لديهم سيارات وأسِرّة. البعض استخدم مصطلح "العصيان المدني" غضباً واستهجاناً لبيان الشرطة؛ ثم يوم الأربعاء غيرت الشرطة رأيها من جديد، وما عاد نقل اللاجئين محظوراً، لكن بات أن كل من يعرض التوصيل على اللاجئين "يميل نحو خرق القانون".
في الوقت نفسه أطلقت الشرطة اللاجئين ممن احتجزتهم في رودبيهافن وتركتهم يرتحلون كيفما شاؤوا. فتلقتهم السيارات التي بالانتظار لتوصلهم إلى كوبنهاغن؛ من بعدها سُمِح للاجئين بالعبور من الدنمارك إلى السويد، حيث لاقوا ترحيباً هناك إلى أن ثقل الحمل على كاهل السويد وأغلقت حدودها.
هدأت الأمور، وبدلاً من عرض التوصيلات على اللاجئين بدأ مئات المدنيين المتطوعين بالتدفق على محطات القطار من هامبورغ بألمانيا وحتى مالمو بالسويد، للإشراف على سلامة اللاجئين والتأكد أن معهم تذاكر إلى السويد. كان الآلاف يتبرعون بالمال والوقت والطعام لصالح المبادرة التي أطلق عليها اسم "الممر الآمن".
كانت صور اللاجئين يصعدون إلى سيارتي تتصدر عناوين الأخبار، وأجريت معي لقاءات ودعيت إلى جلسات مناقشة مع أحد أعضاء حزب الشعب الدنماركي الذي يعارض الهجرة بضراوة. اتهمت بأني أروّج لدعايتي دون حياء على فيسبوك وعلى التلفزيون. كذلك سألني رجل سياسي آخر كيف لي أن أعرف إذا كان هؤلاء الذين ساعدتهم لا يحملون قنابل معهم، وامتلأت صفحتي على فيسبوك برسائل الكراهية، واتهموني بأني خائنة سفيهة تحب المسلمين، وأرسل لي البعض صور بنادق وأسلحة أو مشاهد خادشة تصور ما يريدون لـ10 رجال أفارقة أن يفعلوه بي.
كل هذا كان في سبتمبر/أيلول 2015. ثم في الشهر التالي اتصلت الشرطة بي وبزوجي. كانوا يحققون في أمرنا بتهمة تهريب الناس، وطلبوا منا الحضور لطرح بعض الأسئلة. في الواقع أظن المصطلح الأصح هو "للاستجواب".
حملت نفسي وراجعت المخفر، وأجبت على الكثير من الأسئلة حول ما فعلته. كانت تجربة خوض تحقيق واستجواب مع الشرطة تجربة غريبة، وقد اتضح أن حوالي 15 شخصاً تقدموا بشكوى ضدي وأن 5 أو 6 تقدموا بشكاوى ضد زوجي؛ حتى إن أحدهم تسلل إلى حديقتنا واسترق نظرة عبر الشبابيك إلى غرفة جلوسنا كي يتأكد بالفعل أن هذا هو المنزل الذي يؤوي اللاجئين. لم تكن الشرطة من بادرت بفتح التحقيق من تلقاء نفسها، بل فتحوه بسبب عدد الشكاوى التي وصلتهم من مواطنين دنماركيين.
للتعبير بلغة القانون عن جرمنا الذي اقترفناه: لقد أقدمنا على إعانة ونقل وإيواء أشخاص لا يملكون وثائق سفر سارية قانونياً. هذه هي القهوة والتوصيلة. سألتهم عما يعنونه بقولهم "وثائق سفر سارية قانوناً" فأجابوني أنها جواز سفر ساري الصلاحية وفيزا صالحة.
لم أكن أدرك القانون، ولم تخطر ببالي قط فكرة سؤال العائلة عن وثائق سفرهم الصالحة، فأنا في حياتي لم أسأل أحداً أن يبرز لي وثائق سفره الصالحة قبل أن أعرض عليهم التوصيل؛ كذلك عندما كنت سألت الشرطة وقتها بالهاتف وعبر الموقع لم يذكر أحدٌ منهم لي لا وثائق سفر صالحة ولا طالحة، وحتى لو كانوا أبرزوا لي جوازات سفرهم السورية، فلم أكن لأقدر على الحكم إن كانت صالحة أم منتهية.
مضى الوقت وزرنا العائلة السورية في هلسينبوري قبل عيد الكريسماس؛ كانوا بخير ويتعلمون السويدية بسرعة كي يبدؤوا دراساتهم ويجدوا لأنفسهم وظائف، وقد دلهم زوجي على عائلة سويدية أبدت سروراً لتقديم الدعم والمساعدة كي يتعلموا اللغة. أثناء زيارتنا قدموا لنا العديد من الأطعمة العربية اللذيذة مع طبق من معجنات القرفة، وهو ما وجدناه لطيفاً ورسم على وجوهنا ابتسامة، لكن أفضل ما في الأمر كان أني لأول مرة رأيت البنتين تضحكان.
ثم في الـ11 من مارس/آذار كانت محاكمتنا. لم يتمكن المدعي العام من العثور على رجل الشرطة الذي تحدث إليه زوجي، وكذلك رجل الشرطة الذي تحدثت إليه أنا لم يتذكر مكالمتي معه. خيّرنا المدعي العام بين دفع غرامة مزدوجة تبلغ 45 ألف كرون دنماركياً (حوالي 6270$) وإما الحبس 14 يوماً في السجن.
أصر محامينا على أن ما فعلناه كان مدفوعاً بدوافع إنسانية وأن الظروف لم تكن عادية، فالشرطة نفسها لم تكن تدري ما تعمل والحكومة سكتت عن الموضوع. أما القاضي فاستغرق 20 دقيقة ليتروّى في المسألة قبل أن يصدر حكمه الذي مال فيه نحو رأي المدعي العام.
الصحافة والإعلام كانا بالانتظار خارجاً، فقلت لهما إني غاضبة. غاضبة من تجريمي لأني تصرفت بمقدار ذرة بسيطة من الإنسانية. قلت "لسنا مهربي بشر. نحن أناس عاديون نساعد إخوتنا البشر في المحنة".
العديد من الناس غضبوا مثلنا بل حتى ذهلوا، وما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأ الصحفيون يتصلون بنا من كل العالم: الغارديان والإندبندنت والبي بي سي ورويترز والأسوشيتد بريس والجزيرة والواشنطن بوست وEl País وEl Mundo الإسبانيتان وغيرها كثير من قنوات الصحافة والإعلام السويدية والفنلندية والنرويجية والألمانية والهولندية والكندية، التي أرادت أن تنقل قصة قرار المحكمة الدنماركية بتجريم الأخلاق الإنسانية الاعتيادية.
لم نتفاجأ أمام كل هذا الاهتمام، فقرار المحكمة هذا كان تحدياً سافراً للقيم الإنسانية العالمية واللهفة البسيطة لمساعدة من يمرون بالمحنة، فمعظمنا بغض النظر عن الدين تربوا على شيء من القيم التي تعزز أهمية هذا الفعل بعينه. بل حتى إني أنا، أنا التي تربيت ونشأت في منزل منحلٍ اجتماعياً وفاشلٍ بامتياز بكل المقاييس وفي كل المجالات، قد تعلمت هذا، وهذا ما نعلمه لأطفالنا.
عندما تعاقب محكمة دنماركية الناس لمساعدتهم اللاجئين فإن ذلك يتناقض مع جوهر قيمنا الإنسانية، والأمر تزداد شناعته في بلد معروف بنظام تكافله الاجتماعي الشامل الهادف لمساعدة كل محتاج. لم أكن أدري أن الحد الأدنى من الإنسانية والكرم والخير -أو سمها ما شئت- حكرٌ فقط على من لديهم وثائق سفر صالحة.
ما الرسالة التي يوصلها هذا القرار القضائي لأطفالنا؟ فبعد ساعات فقط من اعتماد قرار المحكمة اتصل بنا شاب رأى في شارعٍ بكوبنهاغن لاجئين جياعاً، ولما خاف من التبعات القضائية حار في أمره ماذا يفعل، أيمد لهم يد العون أم ماذا. هذا هو ما يلقنه الأمر القضائي لأطفالنا. أين نحن من أيام كنا نعلمهم بطولات مساعدتنا لليهود على الفرار إلى السويد من الحرب العالمية الثانية؟ كم تغير الزمن!.
استأنفنا القرار، ورفعت القضية إلى المحكمة الدنماركية العليا، وشاركنا العديدون غضبنا؛ حتى إن عازف موسيقى جاز دنماركياً (هو بنيامين كوبيل) أطلق حملة لجمع التبرعات لتغطية مقدار الغرامة، وتدفقت التبرعات والإسهامات، وفي خلال بضعة أيام كان الناس قد تبرعوا بأكثر من 160 ألف كرونة دنماركية. (22300$) ما فاق الهدف المطلوب بكثير. كانت معظم التبرعات بمبالغ صغيرة، لكن أعداد المتبرعين كانت كبيرة.
رأينا في هذا من وجهة نظرنا احتجاجاً عاماً على الأمر القضائي، لكن خصومنا هاجموا حملة التبرعات ووصفوها باللاقانونية، فرفعوا بلاغاً إلى السلطات الضريبية. لم أصادف في حياتي قدراً من الكراهية بقدر ما شهدته في تلك الفترة، وكل هذا لمجرد مساعدة اللاجئين.
لم يثبت على حملة التبرعات أي غبار، فقررنا استخدام النقود لنساعد في دفع الغرامة عن آخرين حوكموا بنفس تهمة ما فعلناه؛ كانوا بالمئات، منهم طلبة شباب وبعض المتقاعدين والبعض منهم أرباب عوائل كبيرة غير ميسوري الحال. أما ما تبقى من التبرعات فقدمناه مساعدة للاجئين من الأطفال الذين ليس معهم مرافق كبير.
الغريب كان غياب أي رد فعل سياسي لقضيتنا. أحد أعضاء البرلمان من أقصى اليسار انتقد القرار فعلاً، ولكن عدا عن ذلك لم ينبس أحدهم ببنت شفة أو يعلق. لم يُثِر أحد مسألة تغيير القانون أو مناقشته، ولكن مشاعر كراهية المسلمين قوية جداً في الدنمارك اليوم، والناس تصوت وتنتخب في ضوء هذا.
التعامل مع المسلمين بطيبة أمرٌ يفضّ الناخبين عنك فتخسرهم، ولهذا لا مجال للطيبة في الحكومة، بل على العكس، الآن تُتخذ يومياً تدابير، الواحدة تلو الأخرى لجعل حياة اللاجئين لا تطاق قدر المستطاع، فمأواهم الخيام حتى في الشتاء، وحتى رغم توفر مأوى أفضل، كذلك يتم تفتيشهم بحثاً عن أغراض ذات قيمة لدى دخولهم الدنمارك، وتُطلب منهم طلبات غير معقولة عندما يتقدمون بطلب لجوء أو لم شمل مع عائلاتهم أو الجنسية الدائمة. كذلك نشرت الحكومة الدنماركية إعلانات في صحف الشرق الأوسط تحذر فيها اللاجئين من الاقتراب من بلدنا.
يبدو لي أننا ضحينا بالخلق الإنساني الذي بُني المجتمع الدنماركي عليه.
الآن لكي أضع لكم هذا الأمر القضائي في الصورة والإطار أكثر، أخبركم أن رجلاً دنماركياً بصق على اللاجئين المارين أسفل جسر طريق سريع، فتم تغريمه بـ5000 كرون دنماركياً (700$). صحيح أن نظامنا القانوني جرّم الإساءة لمن يمرون بالمحنة، ولكن هذا يشير إلى أن البصق على اللاجئين جرمٌ أخف وأهون من تقديم المساعدة لهم.
في الـ21 من سبتمبر/أيلول 2016 بتت المحكمة الدنماركية العليا في قضية استئنافنا، وثبت قرار المحكمة. الآن صرنا نعرف أن في مساعدة اللاجئين الذين مسهم الضر على طرقات الدنمارك جرماً يعاقب عليه القانون حتى لو كان مجرد توصيلة لآخر الشارع أو فنجان قهوة مهما كانت الظروف. رفعنا قضيتنا مجدداً إلى المحكمة الدنماركية العليا، لكن طلبنا قوبل بالرفض الأسبوع الماضي.
علينا الاستمرار في مناقشة وضع اللاجئين وكيف على مجتمعنا وبلدان أوروبا الاستجابة للكارثة الإنسانية التي تجري أحداثها في سوريا. كم من البشر نستطيع مساعدتهم وأين وكيف علينا مساعدتهم؟ إنه نقاش أسئلته كثيرة لكن إجاباته تبدو أقل.
إن البخل بالمساعدة على الناس الواقفين أمامنا المحتاجين إلى الرعاية والاهتمام والمساعدة وبالٌ على قيمنا الأخلاقية، وعلى نظرتنا للخلق الإنساني وكرامة البشرية. إنه طريق خطير المنعطف لو سلكناه، فهو يبث فينا سخرية وشكوكاً قد تنفث السم في بقية الخير المتبقية في الدنمارك، ما قد يحل ويفكك عرى المجتمع ونسيجه الذي يحاول بعض خصومنا حمايته لكن بطريقة خاطئة دون هدى.
حالياً الكثيرون جداً صامتون يتفرجون على قيمنا الجوهرية كيف تتهاوى وتتهدم بسبب أن الدفاع عنها قد يكلف غالياً جداً من جهة الرأي العام. كنت أظننا أفضل من ذلك. خاب ظني فعلاً.
إن الكنيسة الرسمية للدنمارك هي البروتستانية، ونحن نسمي أنفسنا مسيحيين، ونروي لأطفالنا قصة السامري الصالح الذي لم يدر ظهره. إننا نطالب المهاجرين في بلدنا بتعلم وتبني قيمنا الدنماركية، فكيف سيفهمون أننا في الدنمارك نعاقب الناس على تراحمهم؟
لا أنا ولا زوجي كنا سنتصرف بأي شكل غير الذي تصرفنا به، ففي ذلك خيانة لكل ما نؤمن به، بما في ذلك كل ما نعلمه لأطفالنا.
الغارديان- ترجمة هافينغتون بوست عربي
↧