بالرغم من انحياز تركيا الواضح للثورة السورية لكنها لم تخرج أبدا عن برغماتيتها ( حتى لا نقول تخبطها السياسي ) ، فقد حافظت على علاقات جيدة مع الجميع حتى أثناء الصراع، وتحولت بسرعة للتفاهم مع روسيا بسبب الانقلاب الفاشل المدعوم غربيا ، بعد أن كادت تتورط في نزاع عسكري مباشر معها
تركيا التي ترتبط مصيريا مع سوريا تشعر أن أمنها القومي مهدد بسبب مشروع إقامة دولة كردية بدعم أمريكي صريح ، فالأسباب التركية للتقارب مع الروس نكاية بالأمريكان كثيرة ، لكن عدوانية روسيا تجاه المعارضة والتي تسببت برجحان كفة النظام وتقدم ميليشيات إيران واعادة احتلال حلب ، هي الجرح الذي لم تستطع تركيا إغلاقه ، فقد قبلت تركيا مسارا سياسيا للحل يقبل صراحة ببقاء الأسد ونظامه ويغض الطرف عن العدالة ، وعن خروج الميليشيات الأجنبية وإيران ، وعودة المهجرين كما أجبرت المعارضة السورية التي تقع تحت النفوذ التركي على القبول بهدنة جزئية من طرف واحد ، مبررة ذلك بمحاولة وقف المزيد من الخسائر التي تتعرض لها المعارضة التي تعاني من انقسامات وحصار ، وهي تدعي بقاء كل القضايا معلقة للتفاوض ( بخلاف إعلان موسكو الصريح ) وترفق ذلك بإطلاق سلسلة طويلة من الإشاعات الكاذبة عن رحيل الأسد وخروج الميليشيات (التي لا أساس لها من الصحة) لإسكات الرفض الشعبي وخيبة الأمل التي تسببت بها بهزيمتها المزدوجة عسكريا ثم سياسيا
معظم الجبهات الاسلامية التي دأبت على رفض البحث حتى في مفهوم الديمقراطية والدولة المدنية وهاجمت الجيش الحر بعد تكفيره وتخوينه ، تسير اليوم للتفاوض مع النظام المستبد برعاية العدو الروسي على أساس إعلان موسكو الذي يعتبر سوريا دولة علمانية ، وأن اسقاط الأسد غير وارد وهكذا تترافق البرغماتية التركية التي تقوقعت حول الأمن القومي التركي ، مع العهر الذي اتصفت به المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري الحر والإسلامي فقد أثبتت الوقائع أنهم استسهلوا الكذب و تحولوا إلى متسولين للسلطة والمال مهرولين مأمورين لا كرامة ولا قرار ولا عهد ولا قسم . ولا يستثنى من هذا الوصف من استبعد رغما عنه من الدعوة لهكذا وليمة لحس .
طبعا سيبررون ذلك بسوء الأحوال وانقطاع الدعم وهنا نقول أن كل ذلك لا يبرر الاستسلام ولا خيانة العهد من يرى أنه قد فشل بما تعهد به يستقيل ( ولا يستمر في القيادة ثم يذهب ليقبّل اليد التي لم يستطع كسرها) من لا يستطيع تغيير المنكر لا يساعده ، لو توفر حد أدنى من الدين واحترام الذات ، لسمعنا استقالات ولم نسمع موافقات أم نذكرهم بما صرحوا به سابقا بالفعل ذهب الحياء وأهمه الحياء من الله الذي هو شعبة من الإيمان . خسارتنا بقبول التفاوض على أساس اعلان موسكو أكبر بكثير من خسارة حلب العسكرية . لأنه يعني ضياع حلب وحمص ودمشق إلى الأبد وعدم القدرة على استعادتها ، وهو تنازل استراتيجي لن نستطيع العودة عنه من أجل مكسب مؤقت .
روسيا تدرك أنها لا تستطيع فرض حل لكنها تريد جمع المزيد من الأوراق قبل أن تتفاوض مع ترامب ، فحققت نصر عسكري كبير في حلب بواسطة جرائم الحرب ، وأهدته للنظام وميليشيات إيران رغما عن تركيا التي بقيت صامتة بمرارة واكتفت بتأمين مخرج ذليل لمن تبقى من السكان المشوهين ، تريد روسيا تعزيز نصرها العسكري بنصر ديبلوماسي يطيح حتى بتفاهمات جنييف وفيينا التي لم تكن مقبولة من الشعب السوري أصلا . وتبقي على الأسد ونظامه الطائفي كشرط مسبق للتفاوض باعتباره الورقة الأقوى في يدها ، لذلك ما قدمناه سياسيا يفوق ما خسرناه عسكريا واهم وملتبس ومغفل من يتخيل أن الروس سيطمئنون للترك عدوهم التاريخي ، أو على خلاف مع إيران أو أنهم سيقبلون بتنحية بشار وتسليم السلطة لأعدائه .
الميليشيات الإيرانية تستغل ضعف النظام وحاجة الروس لمقاتلين على الأرض فيقوموا باستكمال مشروعهم الطائفي وأحلامهم بالهيمنة على الجغرافيا واحداث تغيير ديموغرافي جذري هو الوحيد الذي يضمن نجاحهم ضمن تقلبات طقس السياسة . وهم كما النظام غير مقتنعين بشيء آخر غير الحل العسكري ، واستسلام المعارضة بالكامل وسحقها وتشتيت حاضنتها الإجتماعية ( فقتل العرب السنة في الشرق الأوسط وتشريدهم هي سياسة ثابتة للنظام الطائفي النصيري في سوريا والنظام الصفوي الإيراني وحلفائه في العراق ولبنان ، الذي يسعى لاقامة إيران العظمى تمهيدا لعودة المهدي الذي طال أسره وتأخر فرجه ، ولن يظهر إلا على جثث السنة المتفحمة بأسلحة الدمار الشامل انتقاما منهم لمقتل الحسين قبل 14 قرن ) .
مسار التفاهم التركي الروسي بهذه المقاييس فاشل أخلاقيا وعقليا لأنه لم يلحظ أي من الأمور الجذرية التي تعترض الأزمة السورية ( مصير النظام ، العدالة ، الميليشيات ، الاحتلال ، المهجرين ، التغيير الديموغرافي ، القضية الكردية ، الصراع المذهبي ) وبهذه الأدوات فاشل سياسيا أيضا لأن عناصر تنفيذه غير قادرة على الوفاء بعهودها ، فلا روسيا قادرة أو راغبة باخراج ايران ولا هي قادرة على منع الكرد من متابعة مسار الاستقلال ، ولا المعارضة قادرة على اقناع الشعب السوري بحل لا يمنع القتل عنه ولا يعيده لأرضه لأنه ببساطة سيستمر بالمقاومة طالما بقيت الخيام .
كلا الطرفين المتفاهمين ( الروس والترك ) يراهن على قيام الطرف الآخر بافشال (وقف النار أو التفاوض ) وكلا الطرفين المدفوعين للتفاوض من أجل حل هذه القضايا ( أي النظام والمجموعات الاسلامية التي تدور في فلك الإخوان ) غير معني بحلول وسط لأن مثل تلك الحلول ستستبعد كلا الطرفين معا من الحياة السياسية خاصة إذا لامست الديمقراطية والحرية .
أما أمريكا التي تغاضت عن تورط روسيا في الحرب السورية فلن تسمح لها بالخروج السهل منتصرة قبل استنفاذ كل ما حققته ولن تسمح لتركيا بتقويض مشروع الانفصال الكردي المخطط له والذي ينتهي بتقسيم تركيا وايران ذاتهما ضمن مشروع اعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
من وجهة نظر السوريين الذين شبعوا وعودا كاذبة ، أقل ما يقال أخلاقيا هو تحقيق انجاز ملموس بتأمين عودة سريعة وآمنة لسكان حلب برعاية الدولتين تركيا وروسيا وفتح معابر انسانية للمناطق المحاصرة ، فربما يعوض الزخم الشعبي الداعم عن تهافت عناصر هذا الاتفاق . أضع ذلك في سياق النصيحة للديبلوماسيين الروس والترك
(لا بد من انجازات انسانية كبيرة وسريعة تعوض عن الهزالة السياسية والأخلاقية للتسوية المطروحة )
من جهتي سأدعم هذا المسار حبا بتركيا لكن بمقدار وقوفه في وجه التغيير الديموغرافي . أي بمقدار عودة السكان لمدنهم وفك الحصار عنهم فكل القضايا السياسية المتعلقة بنظام الحكم يمكن تأجيل حلها كرمى لعيون الأخوة الأتراك ، لكن ليس على حساب الوجود العربي السني ذاته لأن ذلك لا يخدم الأمن القومي التركي .
المصدر: كلنا شركاء
↧