ماذا بعد؟ هذا هو السؤال المتداول داخل الدوائر السياسية في موسكو هذه الأيام، في إشارة إلى الصراع السوري، والتورط الروسي المتزايد فيه. والواقع أن هذا السؤال لقي أصداءً حتى في قطاع الإعلام الروسي الذي يُعتقد أنه خاضع لسيطرة الكرملين. ويمكن لزوار موسكو الأجانب هذه الأيام، بسهولة، ملاحظة أن «المواطن العادي» المهموم بالتورط الروسي الطويل الأجل في صراع لا نهاية واضحة له، يطرح هو الآخر هذا السؤال. إن ما يزيد من الشعور بالقلق هو تكثيف الإجراءات الأمنية، بما فيها عمليات التفتيش المستمرة التي تقوم بها الشرطة في الأماكن العامة. ولكن، حسب الخطاب الرسمي هنا، حققت روسيا هدفها العسكري في سوريا عبر «طرد» معارضي بشار الأسد المسلحين من معقلهم في حلب، ثانية كبرى مدن سوريا من حيث تعداد السكان.
لذا طبقًا لهذا الخطاب، فإن الخطوة التالية ستكون التوصل إلى صيغة سياسية تمكّن سوريا الممزقة بفعل الحرب من العودة إلى قدر من السلام والحياة الطبيعية. ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ترى أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي عقد مؤتمر ستستضيفه مدينة آستانة، عاصمة جمهورية كازاخستان، خلال الأسبوع المقبل، من أجل التوصل إلى «حل وسط» بين الأسد ومعارضيه. ولكن، مع هذا يواجه المؤتمر عدة عراقيل تتعلق بعدد من القضايا.
مصادر روسية تقول إن رئيس النظام السوري كان يُصرّ على أن تكون لـ«حكومته» الكلمة النهائية في أمر اختيار الأطراف المعارضة المدعوّة إلى المؤتمر، غير أنه أُبلِغ بصورة «ضمنية» أن هذا الأمر ليس من شأنه. وربما لتأكيد أن روسيا هي المسؤولة الآن، صرح سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، بأنه لولا التدخل الروسي لكان نظام الأسد قد سقط «في غضون بضعة أسابيع». هذه الرسالة الموجهة إلى الأسد واضحة، ومفادها: «لا تحاول أن تتصرّف على نحو يفوق مكانتك الحقيقية». كذلك تعرّضت موسكو لانتقادات لاذعة من شركائها الإيرانيين في طهران بسبب توجيه الدعوة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وصرحت وزارة الخارجية الروسية بأن واشنطن دُعيت بالفعل، وأن موسكو تنتظر من الإدارة الجديدة لدونالد ترامب، الذي سيتولى الرئاسة رسميًا اليوم الجمعة، قبول الدعوة. مع هذا، صرّح علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بشكل قاطع بأنه لم تُوجّه أي دعوة إلى واشنطن، في حين تمادى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أكثر؛ إذ قال: «يعلم الحلفاء الروس أننا نعارض توجيه أي دعوة للأميركيين».
المطلوب روسيًا من واشنطن
على الرغم من كل هذا، فإن الشعور السائد في الدوائر السياسية بموسكو هو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يرغب في تحمل المسؤولية كاملة وبلا نهاية عن الوضع في سوريا. بل إنه يأمل أن تتقبّل الإدارة الأميركية الجديدة الدور الروسي القيادي في سوريا، ولكن مع استعدادها لمشاركة روسيا في تحمل عبء التوصل إلى اتفاق سلام، وأيضًا في إعادة بناء الدولة السورية التي مزقتها الحرب.
دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى في موسكو قال معلقًا: «يخشى بوتين من أن يقول له ترامب: سوريا؟ لقد اقتحمتها، وأنت الآن تملكها. إذ يريد بوتين أن يجني ثمار أي نصر سياسي يتحقق في النهاية، لكنه لا يريد، ولا يستطيع، أن يدفع الثمن». ومن ثم، سيكون أفضل «سيناريو» ممكن من وجهة نظر بوتين هو موافقة «المجتمع الدولي» على مرحلة انتقالية تتيح للأسد البقاء في السلطة «لمدة زمنية معقولة»، ثم تقديم المال اللازم لمساعدة «حكومة ائتلافية» مستقبلية على قيادة سوريا في اتجاه مختلف، بما يحفظ مصالح روسيا الاستراتيجية في دولة استراتيجية مطلة على البحر الأبيض المتوسط.
المؤتمر المقترح عقده في مدينة آستانة يأتي بينما يتراجع الدعم الذي يحظى به بوتين، بعدة نقاط مئوية في استطلاعات الرأي المحلية، مع أنه يظل في مستوى الـ70 في المائة. ولكن، ربما ما هو أهم من ذلك هو أن أحدث استطلاعات للرأي توضح أن نحو 51 في المائة فقط من الروس مستعدون لدفع الثمن اللازم لجعل روسيا «واحدة من أكبر الدول نفوذًا في العالم التي لا يُتخذ قرار دولي مهم من دون موافقتها».
استغلال متبادل
كذلك تكتشف روسيا مدى تعقيد التحالفات المشبوهة، التي أقامتها مع نظام الملالي في طهران، ومع حكومة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان المأزومة في أنقرة؛ إذ يقول أكاديمي روسي رفض ذكر اسمه في مقال: «ما تريده طهران حقًا هو تحويل روسيا إلى قوة جوية تعمل لصالح إيران في سوريا. ولقد استخدموا الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة أوباما على هذا النحو في العراق. والآن مع مغادرة أوباما المنصب، ورفض ترامب الخضوع لإيران كما هو مرجّح، ستحتاج طهران إلى روسيا من أجل القيام بهذا الدور». تكمن المفارقة هنا في رغبة بوتين في استخدام الإيرانيين، وبالطبع، «المتطوّعين» اللبنانيين والعراقيين والأفغان والباكستانيين، بالإضافة إلى العلويين، كقوات برّية تابعة لموسكو في سوريا. إلا أن روسيا تكتشف الآن مشكلات أخرى في تحالفها المزدهر مع طهران، منها أن هذا «التحالف» قد يورّط روسيا نفسها في تأجيج النزاعات الطائفية في الشرق الأوسط. ذلك أن أكثر من 90 في المائة من المسلمين الروس من السنّة، الذين يرون أن التفسير الإيراني للإسلام ما هو إلا محض هرطقة. وحتى الآن تابع العلماء المسلمون الروس هذا التحالف العميق مع طهران بقلق بالغ.
ويخبرنا علماء مسلمون روس أن «ترددهم» بشأن تعزيز العلاقات مع طهران قد أثّر في قرار بوتين بوضع بعض الحدود عند توسيع نطاق العلاقات مع إيران. فعلى سبيل المثال، وافقت روسيا على السماح لإيران بفتح فرع لجامعة الإمام الخميني في موسكو، وهي مؤسسة تعليمية تمنح درجات علمية في الإسلام بحسب المنظور الإيراني. مع ذلك، أجل تنفيذ هذه الخطة العام الماضي نظرًا لتغيير الكرملين موقفه. بحسب بعض المصادر، صوّت بوتين لصالح اتفاق يسمح لإيران بإنشاء حوزات علمية في مدينة دربند الساحلية على بحر قزوين في جمهورية داغستان (الروسية الذاتية الحكم)، من أجل تدريب رجال الدين على مذهب الخميني. وللعلم، تعد دربند المدينة الروسية الوحيدة التي يمثل فيها المسلمون الشيعة غالبية السكان. كذلك أثار تعميق العلاقات مع طهران قلق الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، حيث يمثل المسلمون السنّة غالبية السكان. فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق أرسلت الجمهوريات الإسلامية المستقلة في آسيا الوسطى أكثر من 40 ألف شاب للدراسة في الأزهر بالقاهرة وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض والجامعة الإسلامية العالمية في باكستان، ليصبحوا علماء دين. وتخشى النخبة الجديدة من العلماء المسلمين من أي تحالف بين «الإمبريالية الروسية الناهضة والمدّ الشيعي الإيراني» على حد قول مجير دلمقاني، الباحث الإسلامي في موسكو. وأوضح دلمقاني قائلا: «إنهم يرون سوريا اليوم نقطة محوَرية في هذا التحالف، ونقطة الانطلاق المحتملة لهجوم مزدوج في وسط آسيا». وليس من قبيل المصادفة أن تدعم حكومة جمهورية واحدة فقط من أصل خمس جمهوريات في آسيا الوسطى - هي حكومة قيرغيزستان - علنًا التدخل العسكري الروسي الرامي إلى الإبقاء على الأسد في سدة الحكم في سوريا. وحتى هناك، أخفق الرئيس ألماز بك أتامباييف، الذي تولى السلطة عن طريق حركة مؤيدة لروسيا، في حشد الرأي العام لصالح سياسة موسكو تجاه سوريا. وبالفعل، أثار موقف أتامباييف غضب كثير من العلماء المسلمين في آسيا الوسطى؛ بل، وفي سلسلة من خطب الجمعة، كاد تشوباك حاج جليلوف، مفتي قيرغيزستان السابق، أن يدعو صراحةً إلى «الجهاد» ضد نظام الأسد في دمشق. ولقد وصف عبر خطب انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الشعب السوري بأنهم «ضحايا مسلمين لمؤامرة كبرى بين أعداء أجانب للإسلام، وعملائهم المحليين من عشيرة الأسد». ويقول: «لقد قتل بشار الأسد خلال السنوات الخمس الأخيرة إخواننا المسلمين، وشرد الملايين بعيدًا عن قراهم وبلداتهم عمدًا وبكل عنف». كذلك أدان حاج جليلوف تنظيم داعش، واصفًا إياه بأنه «صنيعة» الأسد و«أسياده الإيرانيين». وهكذا، على الرغم من الجهود التي تبذلها حكومات دول آسيا الوسطى من أجل إبقاء هذه الجمهوريات بعيدة عن الصراعات الطائفية في الشرق الأوسط، فإن عدد العلماء المسلمين الذين يعبّرون صراحة عن دعمهم للسوريين الذين يتعرضون لعملية إبادة، ازداد. وتصف جماعات المعارضة الإسلامية، وأبرزها «حركة أوزبكستان الإسلامية»، و«حزب التحرير الإسلامي»، و«حزب النهضة في طاجيكستان» - وجميعها جماعات محظورة - روسيا وإيران بأنهما «رأسان لوحش واحد» يحاول الهيمنة على العالم الإسلامي.
ولا تقتصر مشاعر العداء للأسد على تيارات «الإسلاميين» فحسب في روسيا وآسيا الوسطى؛ بل تمتد لتشمل تيارات وشخصيات أخرى، إذ ناشد العالم المحترم بالباك تولوباييف، الذي يكتب في صحيفة «آيات»، الولايات المتحدة المساعدة في وضع حد «للإبادة التي تحدث في سوريا» وطالب بـ«محاكمة الأسد وشركائه المجرمين أمام القضاء». وأضاف: «لقد تحولت حلب، مهد الثقافة والحضارة العظيمة، وغيرها من المدن، إلى ركام وأنقاض، وبسبب (...) بشار الأسد يعاني الملايين من الناس من ضغوط. فلندعم كل الجهود الرامية إلى التصدي لهذا المستبد الذي يبيد شعبه. لا يوجد خيار آخر». كذلك يتسبب انخراط روسيا في سوريا، وتحالفها مع إيران، في توترات داخل روسيا الاتحادية نفسها، وبالذات في جمهوريات مثل تتارستان وباشكورتستان وداغستان، التي يشكل المسلمون غالبية سكانها، ومن ثم نحو 25 في المائة من سكان روسيا الاتحادية. مع العلم بأن هناك أقليات لا بأس بها تسكن في موسكو وبطرسبورغ وغيرهما من المدن الأخرى. ولقد جرى أخيرًا تنظيم مجموعة من المظاهرات في مدينتي قازان (عاصمة تتارستان) وأوفا (عاصمة باشكورتستان) ومدن داغستان، إلى جانب مظاهرات موسكو خلال عامي 2015 و2016، لكنها كانت نادرًا ما تحظى بتغطية الإعلام الخاضع لسيطرة الكرملين. وتوضح استطلاعات الرأي، التي تخضع هي الأخرى لسيطرة كبيرة، تصاعد حدة المعارضة للحرب في الجمهوريات التي يمثل فيها المسلمون غالبية السكان. في هذه الأثناء، يرى أليكسي مالاشينكو، من «مركز كارنيغي»، أن العمليات الروسية الداعمة للأسد ونظامه لم تسبب فقط تفاقم توتر العلاقات بين الكرملين والمسلمين الروس، بل عجلت بتنامي خطر الإرهاب داخل روسيا. وقد يكون الخوف من إثارة الغضب الشعبي هو ما منع بوتين من عقد مؤتمر السلام الخاص بسوريا في أي من الجمهوريات التابعة لروسيا، التي بها أغلبية مسلمة كبيرة، مفضلاً كازاخستان (حيث توجد أقلية روسية ذات شأن).
وتزعم مصادر في موسكو أن بوتين قد بدأ «تقدير» ارتفاع تكلفة الإبقاء على الأسد في سدة الحكم بالقوة، ولعله باشر البحث عن صيغة تحفظ ماء الوجه و«تخرجه من هذا المأزق برفق وسلاسة». ولهذا السبب يلّمح المسؤولون الروس، الذين يتحدثون سرًا، إلى أن الأسد «يشعر بالإنهاك بعد خمس سنوات من الحرب والتوتر»، وربما أصيب بتشنج عصبي في عينه اليسرى نتيجة «للضغوط النفسية».
مع ذلك، حتى إذا وجد بوتين طريقة لإرشاد رئيس النظام السوري باتجاه المخرج في آستانة، فسيظل على روسيا ضبط طموحات حلفائها الجائعين في طهران وأطماعهم. أما في «آستانة»، وهي كلمة فارسية تعني «مدخل» أو «عتبة»، فقد يجد بوتين نفسه على عتبة أزمة بلا نهاية، بدلا من أن يجد في انتظاره نهاية لنزهة ظافرة.
المصدر: الشرق الأوسط
↧