لو استطاع صوت النساء، المقموع والمهمّش في التاريخ، أن يتحدث، لتغيّر وجه التاريخ، فالتاريخ الذي نعرفه كتبه الرجال عن الرجال من الرجال، وغاب عنه أصوات النساء ورؤيتهن ودورهن في التاريخ. لم يكن قمع صوت النساء في التاريخ، لأنهن طرفٌ ضعيفٌ في علاقات القوة في المجتمع فحسب، بل الأهم، أن هذا الطرف مقطوع اللسان، يملك رواية أخرى، رواية مختلفة تحطم، في حالاتٍ كثيرة، رواية الرجال عن أنفسهم.
كانت أمي النموذج الحي في حياتي الذي جسّد الحالة، فمنذ وعيت على الدنيا، كرّرت أمي رواية اللجوء من فلسطين، بوجود أبي، وبغيابه، وهو لم ينفها ولم يؤكّدها، كان يهز رأسه حسرة فقط، ويتجنب الحديث عن تلك اللحظة القاسية في حياتهم التي تحوّلوا بعدها إلى لاجئين حتى مماتهم. كانت تواجهه وتقول له: "قلت لك يا أحمد. وين بدنا نروح؟! خلينا هون، يا بنموت، يا بنعيش مع اليهود. وين بدنا نروح بخمس ولاد؟! ركبت رأسك وقلت بدنا نطلع من البلد، طلعنا وتبهدلنا، وبعدنا لليوم بنتبهدل". عندما كنت أسألها، هل كنت جادّة في البقاء في فلسطين، كانت تجيب بحسم: "نعم. لم أوافق على الطلعة، هو أجبرني، في ناس كثير بقيت كنا بقينا معهم، هو وصّلنا على نابلس، ورجع على البلد، حصد القمح وخبّاه بالمغارة على أساس راجعين، وبعدنا بنرجع (تقول كلماتها ساخرة)".
لأنها امرأة واقعية، لم تبكِ على الأطلال، كانت كل مرة تعيد اختراع حياتها وحياتنا، إن واحدةً من أهم القضايا المخفية في التاريخ الفلسطيني أن العبء الأساسي للنكبة الفلسطينية وقع على عاتق النساء، وهن اللواتي أعدن نسج خيوط العائلة، ونسج المجتمع، وأعدن اختراع الوطن الذي غاب تحت دولةٍ أخرى سميت إسرائيل. أعدن بناء الوطن المسروق من الحكايات الصغيرة والكبيرة التي أعادت رسم تاريخ البلاد وصورتها لمن ولد في مخيمات اللجوء، صورة البلاد المعادلة للجنة.
كل التاريخ الفلسطيني ذكوري، حسب المدوّنات، تاريخ يدور البحث فيه عن مصائر الرجال وعن أدوارهم، وعما فعلوا في مواجهة العدوان الذي تعرّضت له البلاد التي غابوا عنها وغيبوها. وعندما تظهر النساء، يظهرن على هامش عمل الرجال، فهن الفعالية المخفيّة التي تعمل في الهامش، خدمات المطبح من أجل الرئيسي، فعل الرجال السياسي، وهو حقلٌ احتكره الرجال طوال التاريخ الفلسطيني قبل النكبة وبعدها. لكن، في واقع الحال، النساء هن من أعدن بناء حياة العائلات واختراعها، ونسجن وطناً متخيلا من الحكايات على أسرّة الأطفال، وهن من رمّم الحياة المدمّرة للاجئين الفلسطينيين داخل ما تبقى من فلسطين وخارجها.
كانت حسرة أمي أنها لم تتعلم، وما زاد من هذه الحسرة أن أخواتها الكبريات ذهبن إلى المدرسة، وعندما حان دورها، توفي والدها، فلم تذهب إليها، لأن أخاها كان متخلفا عن والدها. لم يرسلها إلى المدرسة، وأخرج أخواته الباقيات من المدرسة! لم تحب هذا الأخ يوما، لم تكن الأخوة تعني لها شيئا، طالما الأخ ظالم.
على الرغم من أميتها، رسمت أمي لنا، ونحن أطفال، رسوما بدائية، أطفال ذكور يلبسون السراويل، وبنات يلبسن التنانير، ونساء أكبر حجما، كلهم يبتسمون، مسطحين كرسوم الأطفال بلا أبعاد أو ظلال، لكن تعبيراتهم واضحة. لقد أحببت رسمها الساذج، ورغبت يوما، بفضل هذه الرسوم، أن أصبح فنانا تشكيليا، لكني فشلت، كما هي العادة.
صنعت فلسفتها بنفسها واختبرتها في الحياة، لم تكن امرأةً متطلبة، ولم تهتم يوما بالشكليات. طالما امتلكت الحلي الذهبية، زادت ونقصت مرارا وتكرارا في عمرها الطويل، حسب الاحتياجات. لم أرها يوماً ترتدي أي شيء منها، لا بمناسبة ولا بغيرها. شاهدتها، منذ وعيت على الدنيا، تلبس خاتما من الألمنيوم، رافقها طوال عمرها، كانت لوقت طويل تصنع ملابسها بنفسها، وكانت حقيبتها التي تضع فيها نقودها كيساً قماشياً معلقاً برقبتها، ومفتاح المنزل معلق به. في خمسينيات عمرها، قلعت كل أسنانها، لم تستطع أن تضع في فمها طقم أسنان مستعار، صنعت أكثر من واحد، وغيرت النوعيات، كلما حاولت وضعه في فمها، شعرت بالتقيؤ. بعد عدة محاولات، أقلعت عن فكرة طقم الأسنان، وقضت ما تبقى من عمرها بلا أسنان، وتكيفت مع ذلك تأكل كل شيء على ما تبقى من فكيّها. كانت تكره الأطباء، لكنها لم تخالف يوما تعليمات الطبيب، مع تقدمها بالسن، وزيادة أدويتها من أدوية الضغط إلى أدوية القلب. كانت تضع لكل دواء علامة، وتأخذه في وقته، أصيبت بضعف العضلة القلبية، وهي في الخمسينيات من عمرها، وبقيت هذه العضلة تضعف طوال عقود، حملتها حتى التسعين من عمرها، عندما توقف بشكل نهائي. على الرغم من رحلة العذاب الطويلة التي مرّت بها، إلا أنها ماتت، وهي تحتفظ بشعرها الأسود الذي لم تعرف الحنّاء طريقا إليه.
كانت امرأة مرتابةً في كل شي، في أشيائنا، أصدقائنا، أفكارنا، حركاتنا... إلخ. يفرّ أصدقاؤنا من لسانها السليط. كانت تعرف كيف تجرح، وتعرف كيف تداوي. تخوض معاركها الصغيرة بكل شراسةٍ، لا تتنازل عن حقها. أرهبتنا بأبٍ جبار كان غائباً عن البيت طوال اليوم. كان أبي رجلا ضخما بكل المقاييس، له قدراتٌ جبارة، بقي يحمل مائة كليو غرام على ظهره، حتى بلغ
الخامسة والثمانين من عمره، مات أيضا في التسعين من عمره 2003، من دون أن يشكو أي نوع من الأمراض المعروفة للكبار، مثل السكري أو الضغط أو أمراض القلب، ما قتله، كسر تافه في عنق الفخذ أقعده، بعد عملية تركيب مفصلٍ لم تجد نفعا، قتله القعود. كان أبي هو ما ترسمه أمي، ليس ما هو في الواقع. عندما كبرنا، عرفنا أن هذا الأب الضخم، هو ليس أكثر من طفل انعزالي، طوال الوقت يهرب من البيت إلى عمله في دكانه الصغير، طوال أيام الأسبوع من الصباح الباكر إلى وقت متأخر في الليل، خوفا من مواجهة المشكلات التي كانت تواجهها أمي وحدها، وتستعين بصورته القاسية، وليس به شخصيا، كانت صورته تخيّم على البيت، تتوعدنا بالقول له، كانت دائما لا تقول، وكان هو دائم الغياب، كأنه مسافر إلى بلاد أخرى. عندما سألتها: "تحبين أبي؟" قالت: "بحياتي ما طقته". وعندما كرّرت السؤال أمام أبي، لم يتغير الجواب، وكان أبي يضحك على الجواب. في أيامهما الأخيرة معا، اختلفوا على شؤون البلاد ما قبل النكبة، وأراضيهم وأملاكهم، وكان خلافهم يصل إلى الزعل من بعضهم بعضاً، باستدعاء تفاصيل مرّ عليها أكثر من سبعين عاما.
أمي هي التي اخترعت حياتنا، وهي التي رتبتها، أبي كان الصورة، والصورة فقط، إلى درجة، أنه في أحيان كثيرة، لم يكن يعرف أولاده في أي صفوف دراسية. كان يقول إنه يثق بها، مبرّرا هروبا وتخليا عن مسؤوليته. سألت أمي، في سنواتها الأخيرة: كيف الحياة يا أمي؟ كانت تقول: الحياة زوالة، لكنها حلوة يا ابني. قضيت عمري، وأنا أحاول أن أملك ارادتها، لكني فشلت، كانت تتعلم الدروس من الحياة، فكانت تنجح دائما. أما أنا، فكنت أحاول تعلم الدروس من الكتب، فكنت أفشل دائما.
المصدر: العربي الجديد - سمير الزبن
↧