تأخرَ الجيش التركي حتى تدخل مباشرة في سوريا، تأخر بفعل ضغوط دولية وإقليمية، منها على سبيل المثال تهديدات طهران القديمة بإشعال حرب إقليمية كبرى تطاول تركيا. والحق أن الحرب بدأت فعلاً مع استئناف حزب العمال الكردستاني نشاطه المسلح في الجنوب التركي، وسط صمت إعلام عالمي عن رد الجيش الذي اتسم بالعنف المفرط ودمّر بلدات كردية بأكملها. كأن هذا الجانب من الحرب كان رسالة مزدوجة، فمن جهة هي تحذير من مغبة التدخل في سوريا، ومن جهة أخرى إغراء بسحق أكراد تركيا مقابل تحجيم الدور التركي في سوريا.
.
على المقلب السوري، كان منوطاً بالفرع السوري لحزب العمال القيام بالدور الذي يتوق إليه، فالسيطرة على مناطق الوجود الكردي المحاذية لتركيا تقدّم نصراً معنوياً يعزّ تحقيقه في الجانب الآخر من الحدود. أيضاً إخراج تلك المناطق من الصراع السوري، وتصوير مشكلتها الأساسية في العدو التركي المجاور، أمران يخدمان النظام وحزب العمال، الأول بالتخلص من العبء الكردي داخلياً واستخدامه لابتزاز الجوار، والثاني لأن حربه كانت طوال عقود ضد تركيا، ولم تتوقف نظرته إلى أكراد سوريا بوصفهم خزاناً بشرياً لدعم معركته هناك، وقد واتته الفرصة أخيراً لتصوير تركيا كعقبة وحيدة أمام التطلعات الكردية.
.
تركيا، وفق هذه العقيدة، هي إسرائيل الأكراد، تماماً كما كانت تروّج أنظمة الاستبداد صورة إسرائيل كسبب لكل مشاكل المنطقة، وبالطبع كمبرر للاستبداد نفسه. نظرياً، منذ إسقاط سيطرة النظام في حلب، كان الدخول التركي إجراء منطقياً. المسألة لا تتعلق هنا بمكانة خاصة لحلب، وإنما تتعلق في المقام الأول بما فعله النظام بالتزامن مع هزيمته فيها، فحينها بادر إلى عقد صفقة مع الفرع السوري لحزب العمال، بتسليحه وتمكينه في المناطق الكردية كسلطة أمر واقع.
.
لم يكن ذلك الإجراء مجرد رد فعل على دعم أنقرة فصائل المعارضة، بل كان تحوطاً من دور تركي مباشر يفقد فيه النظام أفضليته الجوية، وينتقل بموجبه الصراع ليصبح خارج سيطرته تماماً. لنتذكر أيضاً أن التدخل الروسي، في مرحلته الأولى، كان لا يخفي التطلع إلى عزل حلب وإدلب عن تركيا، في وقت كان فيه مقاتلو وحدات الحماية الكردية وداعش يتكفلون بالسيطرة على باقي الشريط الحدودي. الواقع أن التدخل التركي المباشر وحده ما كان يخيف غالبية القوى الدولية والإقليمية، فضلاً عن النظام. فتركيا هي الجار الأقوى، المؤهل لوجود مؤثر ومستدام في سوريا، بل المؤهل ليكون نظام وصاية بخلاف كافة القوى الإقليمية التي لا تملك هذه الأفضلية بما فيها طهران، وبخلاف القوى الدولية التي لا يملك بعضها مطامع في سوريا، ولا يملك بعضها سوى أفضلية التفوق العسكري.
.
الجانب المذهبي تجوز الإشارة إليه من باب المساعدة التعبوية، أكثر من جعله المدماك الأساس في صراع شيعي/سني لا يبدو شاغلاً تركياً حقيقياً. إننا نتحدث عن البلد المجاور الأقوى، والأكثر استضافة للاجئين السوريين، والمتضرر الأكبر من نشاط حزب العمال، وهذه عوامل كافية لتدفع أية حكومة "إسلامية أو غير إسلامية" للتدخل المباشر. كبحت إدارة أوباما النوايا التركية قدر ما استطاعت، وجرب الطيران الروسي حوالي سنة السيطرة على الحدود لكنه فشل رغم مساعدة وحدات الحماية الكردية والميليشيات الشيعية على الأرض. مع ذلك، كان مطلوباً من أنقرة تغيراً في الموقف الحازم إزاء رأس النظام كي يُعترف بدورها، وهذا ما قدّمه رئيس الوزراء بن علي يلدرم في سلسلة من التصريحات. لقد كانت السيطرة على جرابلس من داعش عنواناً رمزياً لتسوية ثلاثية، أطرافها واشنطن وموسكو وأنقرة، تتنازل بموجبها الأولى عن دعم وحدات الحماية خارج مناطق الوجود الكردي، وتتنازل الثانية عن محاولات السيطرة على الحدود وتحييد تركيا، بينما تتنازل الأخيرة عن مطلب إسقاط بشار كأولوية في التسوية الكبرى القادمة.
.
لم يدفع أي من الأطراف الثلاثة ثمناً من "جيبه"، فإدارة أوباما لا تحمل مشروعاً كردياً على عاتقها بقدر ما تستفيد من تعهد قوات الحماية الاقتصار على محاربة داعش، التعهد الذي رفضت فصائل المعارضة تقديمه لها ما لم يقترن بمحاربة النظام. إدارة بوتين أدركت في الميدان استحالة تحقيق نصر حاسم، وأتت معركة حلب الأخيرة لتوضح هشاشة التقدم فيه، وعدم كفاية التفوق الجوي الذي لم يسعف النظام أصلاً طوال سنوات. أردوغان قدم التنازل "الخفي" من حساب فصائل المعارضة، بالقبول بمبدأ بقاء بشار في مرحلة انتقالية، وأيضاً بدعم تلك الفصائل في مناطق لا يسيطر عليها النظام مباشرة، أي مناطق سيطرة داعش وسيطرة وحدات الحماية غرب الفرات. مَن دفع ثمن الصفقة هي فصائل المعارضة ووحدات الحماية الكردية، الأولى لأنها تخوض معركتها خارج مناطق سيطرة النظام، ولو كانت ضد خصمين لم يقصّرا في قتالها لصالح النظام ولصالحهما، هما داعش ووحدات الحماية الكردية. الأخيرة منهما خسرت الدعم الأميركي الذي واكب توسعها غرب الفرات في معركة منبج، ومن المنطقي أن تُطرح أسئلة كردية حول التضحيات التي قُدّمت تحت لافتة محاربة داعش في مناطق عربية، ثم أطاحها التفاهم التركي الأميركي الجديد.
.يمكن القول بأن تحول أردوغان الأخير سحب من رصيد وحدات الحماية لدى إدارة أوباما، ومن رصيد فصائل المعارضة السياسي المتعلق أساساً بإسقاط النظام، ولو بدا الثمن الذي قبضته ثأراً من خصمين لدودين. يمكن القول أيضاً بأن تحول أردوغان وزع الثمن بالتساوي على متخاصمَيْن سوريين، وهذا ما ليس ملحوظاً من قبلهما، بمعنى عدم دفعه الطرفين إلى إعادة حساباتهما. فأنصار وحدات الحماية الكردية بقوا مواظبين على اتهام المعارضة العربية بالعمالة لأردوغان، من دون التمعن بعمل قواتهم بالتنسيق مع النظام والروس، وأخيراً تحت إشراف أميركي، قبل قبول هذه الأطراف جميعها كبح تطلعاتهم. وفي المقلب الآخر ثمة تشفٍّ واضح بالخيبة الكردية من الحلفاء، ولو أتت معطوفة على خيبات ذاتية متراكمة، منها الخيبة الأخيرة غير المعلنة من المواقف التركية المستجدة، ومع أن ما يحصل يؤشّر على سهولة أن يخسر الطرفان سوية ليس هناك في الأفق ما يدل على تعلم الدرس والبحث عما يجعلهما يربحان معاً.
المصدر: المدن - عمر قدور
↧