في "معجم البلدان"، ذكر ياقوت الحموي داريا، وكتب في تعريفه بها: "داريا قرية كبيرة مشهورة من قرى دمشق بالغوطة والنسبة إليها داراني على غير قياس". ونقل طائفة من أخبار بعض أعلامها، ومنهم عبد الرحمن بن داود أبو علي الخولاني الداراني الذي يعرف بابن مهنا، وهو صاحب كتاب "تاريخ داريا".
.
يحوي هذا "التاريخ" في الواقع سير سبعة وأربعين عالما من أهل الحديث عاشوا في هذه "القرية الكبيرة"، وقد استعاد ابن عساكر معظم ما ورد فيه في موسوعته الشهيرة "تاريخ دمشق". كانت داريا عاصمة الغوطة الجنوبية، وكانت المعقل الأول لليمنيين الذين نزلوا واستقروا فيها منذ العصر الأموي. من هنا، يمكن القول انه كان لداريا تاريخ سياسي قاتم تمثّل في مسلسل الفتن الدموية التي دارت بين قبائل يمن وقبائل قيس في ربوعها، وكان لها تاريخ علمي لامع تمثّل في نتاج عشرات المحدثين والفقهاء والقضاء الذين سكنوها.
.
هاجت العصبية بين القيسية واليمنية بالشام، وقضى ضحية هذا الصراع بشر كثيرون من الفريقين. بحسب رواية ابن عساكر، كان رأس القيسية في ذلك الزمن الفارس أبو الهيذام المري الذي قاد الحرب ضد بني يمن في زمن خلافة هارون الرشيد، فتبع أعداءه مع جنوده حتى وصل "قرية لأهل اليمن يقال لها داريا هي أعظم قرى أهل اليمن بغوطة دمشق، فخرجوا إليهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انكشف اليمانية عن قريتهم ولحقوا بالجبل، ودخلها المضرية فانتهبوا وأحرقوا، وقتل بينهم قتلى كثيرة وكان أكثرهم في اليمانية".
.
في ذلك اليوم الذي عُرف بـ"يوم داريا"، قال شاعرمن القيسية يُدعى قيس الهلالي:
كأنا يوم داريا أسود/ تدافع عن مساكنها أسودا
تركنا أهل داريا رميماً/ حطاماً في منازلهم همودا
قتلنا فيهم حتى رثينا/ لهم ورأيت جمعهم شريدا
إذا غضب الإله على أناس/ دعا قيساً فصيرهم خمودا
وذلك أن قيساً غير شك/ من الصوان بل خلقت حديدا
وقالت "امرأة عنسية من النسوة الشواعر من أهل داريا قُتل لها ابن عم اسمه عمرو":
عين بالدمع فاستهلي لعمرو/ بدموع غزيرة الهملان
قتلته قيس فقرت بقتلى/ قيس عيلان مني العينان
قتلوه مثل الهلال جواداً/ بالعطايا، يبر بالإخوان
قتلوه مثل القناة طريراً/ مائد الأصل، طيب الأردان
وبعمرو فجعت، لهفي عليه/ أبداً أو ألف في الأكفان
كانت "أعظم قرى أهل اليمن بغوطة دمشق" مسرحاً لسلسلة من الفتن بين يمن وقيس، كما كانت روضة من رياض الغوطة، أنزه "جنان الأرض الأربع" وأجلّها. ذكر الشعراء داريّا، وتغنّوا بجمال طبيعتها وحسن مناخها.
قال البحتري في قصيدة نظمها في دخول الخليفة المتوكّل دمشق:
العيش في ليل داريّا إذا بردا/ والراح نمزجها بالماء من بردى
قل للإمام الذي عمّت فواضله/ شرقا وغربا فما نحصي لها عددا
الله ولّاك عن علم خلافته/ والله أعطاك ما لم يعطه أحدا
وما بعثت عتاق الخيل في سفر/ إلا تعرفت فيه اليمن والرشدا
أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها/ وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردت ملأت العين من بلد/ مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقا/ ويصبح النبت في صحرائها بددا
وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسن الحلبي المعروف بالصنوبري في قصيدة نظمها في دير شهير من أديرة الشام عُرف باسم دير مران:
أمر بدير مران فأحيا/ وأجعل بيت لهوي بيت لهيا
وتبرد غلتي بردى فسقيا/ لأيامي على بردى ورعيا
ونعم الدار داريّا ففيها/ صفا لي العيش حتى صار اريا
ولي في باب جيرون ظباء/ أعاطيها الهوى ظبيا فظبيا
صفت دنيا دمشق لمصطفيها/ فلست أريد غير دمشق دنيا
كذلك، تغنّى الشاعر ابن منير بدير الماطرون، و"اعتبره مع داريا في جملة متنزهات دمشق"، كما أشار أبو الفرج الأصبهاني في "الديارات"، وقال بعد أن ذكر طائفة من متنزهات الشام:
فالماطرون فداريّا فجارتها/ فآبلٍ فمغاني دَير قانون
خلال القرون الوسطى، عانت داريا من الصراع الدائر بين الأتابكة والسلاجقة، وووقع أهلها أحيانا ضحية هذا الصراع. وفقا لما نقله ابن الأثير في "الكامل في التاريخ"، سيطر عماد الدين أتابك على بعلبك، وتأهّب للنزول إلى دمشق، فنزل على داريا حيث دار القتال. "وكان الفوز لعسكر زنكي، وعاد الدمشقيون منهزمين، فقُتل كثير منهم". وبحسب رواية أبو شامة المقدسي في "الروضتين في أخبار النورية والصلاحية"، سار نور الدين زنكي بجيشه إلى الدلهمية في البقاع، "ثم نزل بأرض كوكبا غربي دارَيّا، ثم نزل بارض دارَيّا إلى جسر الخشب، ونودى في البلد بخروج الأجناد والأحداث إليه، فلم يظهر منهم إلا اليسير ممن كان يخرج أولا. ثم تقدم ونزل القطيعه وما والاها، ودنا منها بحيث قرب من البلد، ووقعت المناوشة بين الفريقين من غير زحف ولا شد في محاربة، تحرجا من قتل المسلمين. وقال: لا حاجة إلى قتل المسلمين بايدى بعضهم بضعا، وأنا أرفُههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين".
عاشت داريا خلال تاريخها الطويل أياما عصيبة أخرى تشبه ما عاشته في "يوم داريا" أيام أبو الهيذام المري، وتعرّضت أهلها للسبي والموت كما شهد كبار المؤرخين. في "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"، تابع بدر الدين العيني دخول التتار إلى الشام، وقال إن الغزاة ساروا "إلى قرية المزة، وكان أكثر أهلها لم ينتقلوا عنها فنهبوها، وسبوا أهلها، وفعلوا بها كما فعلوا بالصالحية، ثم ساروا إلى داريا فاحتمى أهلها بالجامع، فلم يزالوا حتى دخلوه وفعلوا كما تقدم".
حافظت داريا على بريقها رغم هذه المحن، وبقي تاريخها حيا فيها، وأهمّ شواهده جامع المنبر الذي انهار جزئيا في زمننا نتيجة للقتال الدائر في سوريا، وجامع أبي سليمان الداراني الأثري الذي فقد مئذنته بعد تعرّضه للقصف المتكرّر، وجامع النبي حزقيل الذي تهاوى وخرب كذلك.
المصدر: المدن - محمود الزيباوي
↧